"ليبانون ديبايت" - انطوان الخوري حرب:
لم تتخذ التطورات السياسية التي رافقت انطلاقة العهد الرئاسي الجديد، الكثير من الوقت لتعيد رسم تموضعاتها وفقا لمتطلبات الاطراف الاساسيين على الساحة الداخلية. فرئيس الجمهورية العماد ميشال عون لم يُنتخب بناء على برنامج سياسي رسمي معلن، بل بناء على تصحيح الخلل الميثاقي في السلطة منذ اقرار وثيقة الطائف. فقد طغى الخوف من الفراغ الرئاسي على استمرارية الدولة بمؤسساتها الدستورية، اي الخوف من سقوط النظام السياسي الحالي والذهاب الى مؤتمر تأسيسي يعيد رسم ملامح النظام والكيان من جديد.
هذه المخاوف كانت كافية للقبول باجراء الانتخابات الرئاسية وفق حسابات الاغلبية الهادفة الى المحافظة على المكاسب والامتيازات السياسية والمادية التي تم تحصيلها في ظل نظام الطائف منذ اكتمال عهد الوصاية السورية عام 1990، الى ما بعد انتهائها في العام 2005، ومن ثم تضعضع الوضع السياسي والدستوري الذي تسبب به انكشاف عجز الطبقة السياسية عن ادارة البلاد من دون وصاية خارجية عقب الانسحابات العسكرية السورية، فعمد اطراف هذه الطبقة الى ضخ جرعة من استمرارية وجود الدولة وحماية للمكتسبات الموروثة منذ عقدين ونيّف من الزمن.
هذه الحسابات تعود الى خصوصية كل طرف، وتعنيه وحده من دون مشاركة او تأييد الاخرين، وخاصة من وفدوا الى الساحة السياسية بعد غياب طويل وقسري، وعلى رأسهم الرئيس عون الذي كان من الاصل خارج نادي هذه الطبقة المتوارثة منذ قرن من الزمن. فحين تسلم الحكم عام 1988، قادته الظروف الى ترسيخ الشرخ بينه وبينها الى حد انقلابه عليها ومواجهته لها وصراعه معها، والذي انتهى بغلبتها عليه ونفيه الى الخارج. اما عودته الى لبنان اثر انسحاب الجيش السوري منه في نيسان ال2005، فقد اعقبت اعتراف الجميع بصوابية موقفه من الوجود العسكري السوري، الى حد تبنّي خطابه، ما بلغ حتى المزايدة عليه، بعدما كان اركان هذه الطبقة يصفونه بالمجنون وفق الحد الادنى للنعوت التي كانوا يطلقونها عليه.
ولم تسجل اليوميات السياسية للرئيس عون منذ عودته من المنفى، اي تغيير جذري في مسار علاقاته الداخلية، وان ابدى شيئاَ من التغيير والمرونة بشأنها. فهو خاض الانتخابات النيابية عام 2005 في مواجهة الحلف الرباعي، كما ابقاه هذا الحلف خارج المشاركة الحكومية لسنوات، مفضّلاً مشاركة الرئيس السابق اميل لحود في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الاولى، بدل مشاركته فيها. ثم توالت الاختلافات وتمحورت حول التحالفات والطروحات ولا سيما منها مكافحة الفساد في وجه كل الشركاء في الحكم والذين كانوا متجذرين فيه منذ الزمن السوري والحرب الاهلية، فكان كمن يغرد وحيداً خارج سرب السلطة والنفوذ المبنيين على قاعدة المحاصصة الطائفية التي يعود "ريعها" الى زعماء الطوائف قبل الطوائف نفسها. كما تمكن خصوم الجنرال من هزيمته انتخابيا في انتخابات العام 2009 وحرمانه من تحصيل الاكثرية النيابية المسيحية المطلقة.
استمر التباعد مودياً بحكومة السنيورة ومن بعدها حكومة الرئيس سعد الحريري، كما شمل سياسات لبنان الخارجية والازمة السورية والتفجيرات والاضطرابات الامنية وتسييس اجهزة الامن والاغتيالات والمحكمة الدولية والشهود الزور، وصولا الى الابراء المستحيل وما يتعلق بسياسة الدولة المالية منذ اوائل تسعينات القرن الماضي، اضافة الى قطع حساب ال11 مليار دولار في عهد حكومتي السنيورة، وقانون الانتخابات فالانتخابات الرئاسية... ما يعني ان الخلافات كانت تحيط بكل ملفات الدولة وعلى كافة المستويات تقريباً، في اطار انقسام عامودي وتشرذم افقي غير مسبوق في التاريخ السياسي اللبناني المعاصر.
في ختام هذا السياق الصراعي الطويل، اتت لحظة الانتخابات الرئاسية بعد فشل كل الاطراف في فرض مرشحيهم، لتؤتي ثمارها بالمواقف الانقلابية الغير متوقعة ، اولا في ترشيح الرئيس سعد الحريري النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وهو في صلب الخط السياسي المعادي لخط تيار المستقبل، ثم بتبني الدكتور سمير جعجع ترشيح الجنرال، انتهاءً باتفاق كل من الاثنان على دعمه. وخيّل للجميع ان التنازلات المتبادلة لطرفي 8 و14 آذار، قد استولدت جوّاً توافقيا سريع المفعول وعالي المستوى، الى حد استحالة التسليم بالتوصل اليه بعيداً من التفاهمات والصفقات الاقليمية والدولية المعهودة على مرّ تاريخ الازمات اللبنانية. لكن ما يبدو عليه الامر اليوم، هو غير ما بدا عليه منذ جلسة انتخاب الرئيس عون قبل حوالي الاربعة اشهر. فرغم تجسّد التنازلات المتبادلة في تشكيل الحكومة وانجاز البيان الوزاري وبعض التعيينات الادارية والامنية، فان تبدد اجواء التوافق بدأت تلوح في افق المرحلة المستقبلية. فمن حيث كان متوقعا ان تكون الانتخابات النيابية هي قاعدة انطلاق عهد الرئيس عون، وتبيان الحركة الانتاجية سياسيا واقتصاديا وادارياً خلاله، ركّز ملف الموازنة العامة اهتمام المواطنين على السلة الضرائبية المرتقبة التي ستُفرض عليهم، والتي تبيّن منها الخلاف الواضح، حيث ان فريق رئيس الحكومة يريدها ان تكون عامة جامعة تطال فئات الدخل كافة، اراد فريق الرئيس تركيزها على السلع الكمالية والمؤسسات الكبيرة ارضاء لفئات الدخل المحدود. اما الضريبة على القيمة المضافة، فلقد نجح فريق الحريري برفعها بنسبة 5% اضافية، فيما كان رئيس الجمهورية يريد ابقائها على نسبتها الحالية اي 10%. وفي ملف قانون الانتخابات النيابية، يظهر الخلاف كبيراً وعميقاً بين اطراف الحكومة. فحيث يتمسك الفريق الرئاسي بقاعدة النسبية ومعه حزب الله، وقع الخلاف بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية بسبب رغبة الدكتور سمير جعجع بارضاء النائب وليد جنبلاط المتمسك بقاعدة الاكثرية ومعه تيار المستقبل، كما يختلف موقف الرئيس نبيه بري عن هؤلاء جميعا، من حيث بمطالبته بالقانون المختلط والذي يرضي بجانب منه جنبلاط عبر الصوت التفضيلي، كما يرضي غيره من حيث التأهيل الاكثري في القضاء والتنافس النسبي في المحافظة اي ما يعرف بقانون "ميقاتي".
خلافات العهد الرئاسي الجديد، تتوالى في الظهور اليومي على وقع الملفات المثارة والاستحقاقات الداهمة ليصل مداها الى السياسة اللبنانية الخارجية. فبعد زيارة الرئيس للملكة العربية السعودية التي كانت اولى زياراته الخارجية. والتي هدفت الى اعادة ترتيب العلاقة اللبنانية السعودية الخليجية بعد التأزّم الذي ادّى الى وقف المملكة للهبة العسكرية للجيش اللبناني وتحذير المواطنين السعوديين من زيارة لبنان. عادت الى التأزّم من جديد على قاعدة اختلاف الموقف السعودي الرسمي عن موقفق رئيس الجمهورية الذي دافع فيه عن حزب لله وسلاحه، والذي ادّى الى الغاء الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز زيارته التي كانت مقررة هذا الشهر الى بيروت. اما غربيا، فللادارة الاميريكية موقفاً معادياً للتمدد الايراني في المنطقة، ظهر من خلال مواقف الرئيس الاميريكي الجديد دونالد ترامب، وفي بيانات السفارة الاميريكية في بيروت في تعليقها على موقف الرئيس.
تبقى خطة مكافحة الفساد في مؤسسات الدولة، التي لم تظهر تباشيرها بعد رغم تعيين وزير خاص لهذه الحقيبة في الحكومة، مما يشير الى انتظار الرئاسة لمفصل سياسي هام للبدء بحملة قوية لمكافحة الفساد وعلى الارجح هو مفصل الانتخابات النيابية التي ينتظرها هذا العهد بفارغ الصبر كي يقوم بخطواته الكبيرة. فلا يبدو ان هذه الانتخابات ستجري في موعدها، ولا ملامح للاتفاق على قانون انتخابي، كما ان هذه المكافحة غابت عن محطة اساسية في مسار العهد، هي الموازنة حيث لم يتطرّق احد من العاملين على وضعها الى سياسة التقشف وعصر النفقات توفيراً للامكانيات التنموية المطلوبة في سائر القطاعات الاقتصادية، ولا من خلال الخطط التطويرية لتعزيز ضخ السيولة النقدية في السوق لتزخيم حركة الاستثمارات المحلية والاجنبية بغية الدفع باتجاه توازن ميزان المدفوعات بنسبة كبرى تحقيقاً للاستقرار الاقتصادي ورفعاً لمعدل النموّ ومنع التهريب والتهرّب من الضرائب الستهدفة للمعدلات الكبرى للارباح.
في ظل هذه الاجواء، لا يزال عهد الرئيس العماد ميشال عون متعثراّ في انطلاقته الموعودة، والتي بدأ بريقها بالتراجع نتيجة عدم توفر حركة شعبية واجماع سياسي حولها بفعل الخلافات والاختلافات بين اركان الحكم. وفي حين تسير الخطى الرئاسية بهدوء وثبات على طريق التغيير المنشود، الذي وُعِدَ الشعب اللبناني به من خلال التباشير الرئاسية العونية التي ضج بها كثيراً اهل العهد وشريحة التيار الوطني الحر. وفي غياب الصلاحيات الرئاسية الدستورية المنزوعة منذ العام 1989، والتحالفات القوية التي من شأنها التعويض عن تلك الصلاحيات، لا يبقى امام العهد الرئاسي سوى الاستناد الى القواعد الشعبية لتأمين قوة دفع للخطوات الاصلاحية والتغييرية اللازمة. فماذا ينتظر الرئيس، ومائا ينتظر العهد وماذا ينتظر الحلفاء الذين سيكونون اول واكبر المتضررين من فشل الخطى الرئاسية.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News