ألقى العلامة السيد علي فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الباقر، عندما سأله أحد أصحابه، وهو جابر، عمن ينسب إلى الشيعة، ويستحق لقب "شيعي"، لأن بعض الناس يعتبر أن التشيع هو أن يحب عليا، ويلتزم ولايته، ويفعل بعد ذلك ما يريد، كما قال ذلك الشاعر:
سودت صحيفة أعمالي *** ووكلت الأمر إلى حيدر
وهذا الأمر فيه إساءة إلى علي وإلى أهل البيت ودورهم.. ولذلك، قال: "يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث.. وأداء الأمانة إلى من ائتمنهم، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء".
فقال جابر: "يا ابن رسول الله! لست أعرف أحدا بهذه الصفة، فقد تجد شيعيا ولا يصدق ولا يكون أمينا على أموال الناس أو المال العام.. وقد تجده لا يدير وجهه إلى قبلة".
قال: "يا جابر، لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحب عليا وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعالا؟ فلو قال: إني أحب رسول الله، ورسول الله خير من علي ثم لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، فوالله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة...".
ثم يقول الإمام متحدثا عن نفسه وعن أهل البيت ، حتى نحن: "ما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة"، فالمقياس لتحديد صحة العلاقة مع أهل البيت، هو ما أوضحه الإمام : "من كان لله مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو".
فالتشيع أيها الأحبة، ليس إطارا خاصا محددا، بل إنه يتواجد حيث يكون الحق والعدل والصدق والأمانة والنظام، في مواجهة الظلم والاستكبار والاستئثار والأنانية والفساد.. وهذا ما نريد أن نستهديه في هذا اليوم".
اضاف: "والبداية من لبنان، الذي مرت عليه في الثالث عشر من شهر نيسان ذكرى الحرب الأهلية، وهي بالطبع مناسبة مشؤومة على لبنان واللبنانيين جميعا، لكونها تعيدهم إلى مآس وآلام لا يزالون يعانون آثارها وتداعياتها، فهي لم تمس الحجر والبشر، بل أصابت نسيجهم الاجتماعي في الصميم، وكادت تهدد كيانهم.
إننا لا نريد من استعادة هذه الذكرى أن ننكأ الجراح، فهذه الجراح لا بد من أن تندمل، بل لأخذ العبرة، ليكون وعي اللبنانيين أكبر، وتكون لديهم المناعة والحصانة التي تقيهم عودة هذه الحرب بكل مآسيها.
لقد كان لبنان وسيبقى في دائرة الاستهداف، لأن هناك من لا يزال يرى في لبنان الرئة التي تتنفس مشاكل المنطقة وسمومها، وحتى مشاكل العالم وسمومه، والساحة التي يحرص الكيان الصهيوني على تدمير صيغة العيش المشترك فيها، وضرب التنوع الديني بين أبنائها، لتسويق مشروعه التهويدي، القائم على استئصال كل تنوع ديني وقومي، ولإظهار عدم جدوى هذه الصيغة، ليثبت بالوقائع عدم قدرة الأديان على التعايش فيما بينها.. ولذلك، فإن اللبنانيين مدعوون دائما إلى أن يحصنوا وطنهم، وأن يزيلوا كل الأسباب التي تؤدي إلى إحداث الفتن... هم بحاجة دائما إلى تحصين أنفسهم، حتى لا ينفذ إليهم من يسعى إلى تهديد وحدتهم. وأولى عناصر التحصين، إعادة النظر في نظامهم السياسي الطائفي الولاد بطبيعته للفتن، وإزالة أي شعور بالغبن لدى الطوائف والمذاهب، لتعزيز فرص التلاقي، والكف عن تسييس الدين، حتى يعود للعب دوره القيمي والأخلاقي الجامع، بدلا من أن يتحول إلى مظهر لتقاسم السلطة والصراع عليها".
وتابع شريفة: "لقد انطلقت الحرب اللبنانية على أساس إشعار المسلمين بالغبن من سيطرة المسيحيين على مقدرات الدولة، ليطالبوا بأخذ حقوقهم كاملة، في الوقت الذي خوف المسيحيون من المسلمين على أساس أنهم يسعون إلى تهديد وجودهم على المستوى الديمغرافي، بسعيهم إلى توطين الفلسطينيين.. وأدخل آنذاك اللبنانيون في آتون حرب كان من الواضح أنها تهدف إلى إسقاط صيغة التعايش وتسويق مشروع حل تصفوي للقضية الفلسطينية، كان من الضروري أن يطبخ على النار اللبنانية..
إننا في ضوء التجارب المرة التي عشناها، نخشى في هذه المرحلة الحساسة وطنيا وإقليميا، على مستقبل لبنان، وخصوصا مع تجدد خطاب الخوف من الآخر على المستوى الطائفي أو المذهبي، بحيث يشعر كل مكون طائفي أو مذهبي بأنه مهدد بوجوده، وهو، ما استعيد في الأيام الأخيرة للأسف، بما يذكرنا بخطاب الحرب الأهلية المشؤومة التي لا يبدو أن الكثيرين قد تعلموا من دروسها وعبرها، ما جعل اللبنانيين يخشون أن تتحول هذه الحرب الباردة التي نعيشها بسبب خلافاتنا الطائفية إلى حرب حارة".
واردف: "إن هذا المناخ الطائفي المسموم الذي أخذ بالظهور مؤخرا، يؤكد الحاجة إلى تحصين الواقع اللبناني على المستوى السياسي والأخلاقي، الذي بلغت هشاشته الحد الذي هدد البلد بالغرق في آتون فتنة، بفعل الخلاف على قانون انتخابي، ثم على جلسة التمديد، التي اعتبرتها بعض القوى الرافضة للتمديد تحديا، وأعطتها بعدا طائفيا، حتى اعتبرت تحديا للمسيحيين. ولولا حكمة رئيس الجمهورية وتجاوب رئيسي الحكومة والمجلس معه، لوقعت الفتنة، ولما تم التوافق على تأجيل جلسات المجلس النيابي شهرا لإعطاء المجال والوقت الكافي لإقرار قانون انتخابي للبلد..
ونحن في هذا المجال، وفي الوقت الذي نرفض مبدأ التمديد، ونرى فيه إساءة إلى الحياة السياسية في لبنان، نرى أن هذا القرار لم يكن سببه بعض القوى السياسية، ولم يكن خيار المسلمين في مواجهة المسيحيين، بل جاء نتيجة تلكؤ القوى السياسية جميعا، وفشلها في إيجاد الصيغ التي تساهم في إقرار قانون انتخابي يتوافق عليه الجميع، بحيث بقي كل فريق يقدم القانون الذي يتناسب مع مصالحه الانتخابية، وما يؤمن له أن يكون الفريق الأقوى في طائفته وفي الساحة الداخلية.
ومهما كان السبب، سيبقى على كل القوى السياسية، ولا سيما تلك الرافضة للتمديد، أن تستنفر جهودها خلال هذا الشهر، لإيجاد قانون عصري يضمن صحة التمثيل، ويؤمن الشراكة الحقيقية بين اللبنانيين، لا أن يحولهم إلى طوائف ومذاهب متناحرة، وإن كنا نخشى أن لا يتحقق ذلك".
وختم: "ونبقى في لبنان، وفي إطار الحديث عن تثبيت السلم الأهلي فيه، لنشير إلى أهمية الاتفاق الذي أنجز في مخيم عين الحلوة، وأدى إلى انتشار القوى الأمنية الفلسطينية المشتركة، ونأمل من خلال تثبيت هذا الاتفاق، إزالة كل البؤر التي تسيء إلى المخيم وإلى محيطه، بحيث لا يكون ساحة صراع داخلي بين القوى الفلسطينية، ومكانا يلجأ إليه الخارجون عن القانون والإرهابيون.
ونحن في هذا المجال، نقدر كل القوى والشخصيات التي بذلت جهودا لإعادة الأمن إلى المخيم، ونأمل أن تستكمل هذه الجهود، حتى لا يكون ما حصل بمثابة هدنة موقتة، ويبقى المخيم ساحة تقاسم نفوذ. إن من حق الشعب الفلسطيني على كل القوى الفلسطينية أن تؤمن، بالتعاون مع القوى الأمنية اللبنانية، الاستقرار والعيش الكريم، حتى لا ييأس ويهيم في بلاد الله الواسعة".
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News