المصدر: *"النهار"*
بقلم زياد بارود
لافتٌ ومُحزنٌ في آن واحد أن نبحث في "صنع وطن" بعد نحو قرنٍ على إعلان "لبنان الكبير" وبعد 75 عاماً على إعلان استقلاله! لافتٌ أن تختار "النهار"، العمرها من عمر البلد، أن تأخذ على عاتقها فتح أبواب النقاش، فنبحث "معاً"، كلّنا في جريدة، عن صفحات البلد الضائعة، نحاول إعادة الترتيب والترقيم، وربما الصياغة والتبويب، بين أولويات الناس والهموم وبين غياهب الدولة والسموم... ومُحزنٌ أن نبحث، بعد قرنٍ ويوبيل، في تعرّجات وطنٍ لم نرقَ به، كلّنا، إلى مصاف الدولة الحامية والمواطن المطمئن إلى مؤسساتٍ ضامنة...
لا يُجدي التوقف طويلا – هنا- عند المسببات والمعوقات التي حالت دون اكتمال صنع الوطن - الدولة. لا يختلف اثنان على ان بعضها بُنيوي داخلي ويرتبط بآلياتنا الدستورية وحالنا الطائفية واختلال التوازن بين مواطن ومثيله، فيما بعضها الآخر ناجمٌ عن لعنة الجغرافيا في منطقةٍ لم تعرف الاستقرار إلا في ما ندر.
بنيوياً، سقط اللبنانيون في امتحان إدارة التنوع، وغالباً ما اختلفوا حول جنس الملائكة، فيما أسوار مدينتهم تُدكّ وتنهار. سقطوا في صنع وطنٍ يحترم ناسه "الكتاب"، الدستور، كوثيقةٍ مرجعية، ويعتبرون، كما جاء فيه، أن حرية المعتقد مطلقة. فشلوا مرّات في حماية الحق في الاختلاف والأقليات السياسية والفكرية قبل الطائفية. سقطوا عندما استبدلوا عقولهم بعضلاتهم، وعندما قدّموا أعدادهم على غنى تنوّعهم. وسقطوا ذريعاً عندما لم يحترموا المواطن كقيمةٍ مطلقة بمعزل عن انتماء هنا وآخر هناك.
أما لعنة الجغرافيا، فقد ساهمت هي أيضاً، في مسارٍ موازٍ، في تفكّك أوصال وطنٍ فتيّ، حديث النشأة، طريّ العود. ما هي سنوات خمس على الاستقلال حتى حلّت نكبة فلسطين، فتلقّى لبنان أول ضربة. سنوات قليلة بعدها ومزّقته "ثورة"، فمحاولة انقلاب، فنكسة عربية بعد نكبة، فاتفاق القاهرة، فحربٌ مدمّرة... كل هذه المحطات في غضون عقودٍ قليلة والدولة يافعة والضربات قاسية... ضرباتٌ أنهكت بنى الدولة تلك، على تواضعها. وانتهت الحرب على طائفٍ ووصايةٍ، ولم نبنِ وطناً. لم نبنِ كامل الدولة.
اليوم، وفي ظل منطقةٍ مشتعلة حرباً وإرهاباً وتفككاً ونزوحاً وحالاً إقتصادية مقلقة، كيف البناء، بل كيف التحصين؟ كيف "الصناعة الوطنية" معاً؟ سلطةً ومعارضة، قبل الانتخابات وفيها وبعدها؟
ثمة محوران بنيويان جديران بأن يؤسَّس عليهما في عملية البناء، وكلاهما دخل حيّز الإجماع التوافقي منذ عقود: مجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية. منذ الطائف، وهما على حبال الانتظار، فيما هيكل الدولة يتأكل بين قانون انتخاب (ولو مختلفاً هذه المرة)، ومركزيةٍ تترنّح على لحن الزبائنية.
في العنوان الأول، يشكّل نظام المجلسين حلاًّ مزدوجاً: فهو، من جهة، يعزّز تمثيل مختلف المكوّنات ويعطي من يحتاج منها إلى ضمانات ما يكفي من التطمينات، وخصوصاً على صعيد المواضيع "المصيرية"، كما انه يحرّر مجلس النواب، من جهة أخرى، ويعطي التمثيل السياسي والمناطقي كلّ مداه. المشكلة والعائق هما في الصيغة الراهنة للمادة 22 من الدستور التي تعلّق تنفيذ هذا الإصلاح الهيكلي على انتخاب مجلسٍ للنوّاب خارج القيد الطائفي. مجدداً: العربة والحصان...
وفي العنوان الثاني، لا تقتصر اللامركزية الإدارية على مجرّد الإنماء، بل هي تشكّل أداة أخرى لإدارة التنوّع، وتعزّز المشاركة وتضمن استمرار المناطق تتنفّس عندما يختنق المركز على حين أزمةٍ حكومية أو فراغٍ دستوري. أهمية اللامركزية أنها في صلب البناء الوطني ويمكنها، إذا لم يتم إحباط محاولات إقرارها، أن تساهم جذرياً في البناء الهيكلي للدولة الواحدة الموحدة.
إلى العنوانين المذكورين، عناوين أخرى كثيرة لا شكّ أن أوراق "النهار" ستتضمّن جلّها. لكن أزمة "صنع الوطن" ليست قَطعًا أزمة أوراق، بل أزمة رياح تجري بما لا تشتهي سفن الإصلاح وأساطيلها...
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News