"ليبانون ديبايت" - المحرر السياسي
عكفَ خيّاطوا الحُكومة الرئيسيّون خلال السّاعاتِ التي سبقت إنجاز التشكيلة الحكومية على محاولةِ إنهاء معضلة "تناسل العقد" التي عادت واقتحمت تفاصيلها الشيطانية خطوط الحل السّاخنة. المحاولات السريعة التي خيضت حينها أتت في سباق مع الوقت قبل انتهاء مفاعيل "التفويض الفرنسي" الذي مُنح إلى الحريري من أجلِ تشكيل حكومته الثالثة خلال مسيرته والثانية في العهد الحالي، والذي جرى تناوله من قبل أكثر من جهة سياسيّة على إعتبارِ أنهُ ملاذ الحل الأخير.
وبدا في الأفق أن ثمّة تنازعاً دولياً من أجل تشكيل الحُكومة اللّبنانية ما أفصحَ عن وجود وجهتي نظر؛ واحدة تدفع صوب الإسراع في التّشكيل، وترمي في نظرتها هذه إلى ضرورات ملحة، وأخرى ترى جدوى في إدخالِ شيء من التريث إلى حين، وتعتقد أن على لبنان إنتظار تبلور مسارات الحل في المنطقة. والمساران يبدو أنهما سينفجران فوق بيروت على اعتبار أن واحداً سيمر فقط، أما الأضرار الجانبية التي ستنتج عن هذا المرور فهي مأخوذة في الحسبان.
بدأ تبلور هذا الجو في النصف الثّالث من مأزق تشكيل الحُكومة، أي قبيل وعند تقديم إقتراح الحل المعروف بإسم "مسار جواد عدرة"، لكن وفيما بعد أتت ترجمته الفجّة من بيروت على لسانِ المبعوث الأميركي ديفيد هيل الذي وضع شروطاً للتشكيل "لا يهمنا الحُكومة، إنما نوع الحكومة" وفي نفس الوقت أسس مخرجاً قام على أنه وفي حال كانت هناك صعوبات فلتفعل الحُكومة المستقيلة.
الفرنسيون الذين وجدوا في إستمالةِ الحريري الدائمة لهم استنهاضاً للدور الفرنسي السّابق في لبنان، رأوا أن مسألة إعادة تفعيل حكومة تصريف الأعمال وبالتالي عدم تشكيل حكومة جديدة، يعرض أولاً مصالحهم إلى الضرر وثانياً يجعل ما قدم بمؤتمر "سيدر" في مهبِ الريح، وثالثاً يحول الحريري إلى رهينةً لتبدلات غير معروفة التواريخ، لذلك وجدوا أن السبيل الأمضى هو في تفعيل "خلية الأزمة" التي نشطت خلال احتجاز الحريري في السعودية خريف ٢٠١٧.
واستلحاقاً، وجد الحريري أنه وطوال فترة تكليفه، لم يستطع أن ينال الضوء الأخضر السعودي من أجل المضي قدماً في دوره والحصول على ضمانات داخلية تساعد في التّشكيل، إضافةً إلى شكواه الدائمة من فقدان الغطاء السّني الإقليمي؛ فالسعودية لا تقدم أي إقتراحات، والإمارات تلازم السعودية خياراتها، والدور التركي أصلاً لا يُحسب عليه الحريري.
إلى جانبِ ذلك، وصلت أكثر من إشارةٍ إلى الحريري فحواها أن السعودية لا تجد حرجاً في تأخير تشكيل الحُكومة، لأن "الوضع اللبناني ليس على جدول الأولويات"، ففهم أن الرياض تفضل التريث.
عند هذه النقطة وجد الفرنسيون ضرورةً في التحرك وتفعيل "خلية الأزمة" آنفة الذكر، التي كان للمصريين فيها حضور لافت. ومن وجهةِ النظر الفرنسية، تستطيعُ مصر أن توفر غطاءاً سنياً للحريري يكفي لإتمام عملية التّشكيل. وعليه، بات في متناولِ الحريري معطى داخلي راغب في تسريع التّشكيل، ودولي مماثل تقوده فرنسا إلى جانبٍ عربي -سني- توفره مصر.
ومع تبلور الصّيغة ، حزم الرّئيس الحريري حقائبه وتوجّه إلى العاصمة الفرنسية باريس التي كان يتواجد فيها صدفة رئيس حزب القوات سمير جعجع. وقد أبلغَ الحريري قبل سفره الوزير جبران باسيل الذي كان يشاركُ في مؤتمر "دافوس" عبر "الواتس آب" أن يلاقيه في العاصمة الفرنسية. هناك، خاض الحريري لقاءات "مثمرة" علنية مع الزعيمين المسيحيين، لكن اللقاءات السّرية التي تجري دائماً بعيداً عن الإعلام تبقى الاهم.
من باريس حضر الحريري إلى بيروت منتشياً ومتخذاً قراره بالمضي في عملية التّشكيل. و للمرة الأولى لمس المعنيين جدية حريرية، وقد وضع المُكلّف سقفاً زمنياً له لإنهاء الأمر تمثل بنهاية الأسبوع المنصرم. بالتوازي، كان الفرنسيون بتكليف رئاسي، يتحركوا عند المصريين، ووضعوهم في صورة ما يجري ، إضافةً إلى الطلب منهم توفير الدعم إلى الحريري.
قبل ذلك، كان المصريون قد فعلوا مبادرتهم في بيروت، وقد استغلَ وزير الخارجية سامح شكري تمثيله لبلاده في القمّة الإقتصادية الإجتماعية التنموية قبل أسبوعين، من أجلِ عقد لقاءات مع بعض المرجعيات اللّبنانية قدم خلالها نصائح من أجل الإسراع في تشكيل الحُكومة. إلى جانبِ ذلك، أعطى إيعاز إلى السّفير المصري في بيروت من أجل استنهاض المبادرة المصرية التي نشطت قبل مدة على نفسِ الخط والعمل على تسويقها خاصة لدى حلفاء الحريري.
وخلال المشوار الذي خاضه الرّئيس المُكلّف، سربت أكثر من معلومة حول تحرك مصري يوازيه آخر فرنسي. ولإعطاء مزيد من التأكيد للأمر، شوهد السّفير المصري نزيه النجاري ضيفاً رسمياً على طاولة العشاء الخاصة التي جمعت الحريري بوليد بك جنبلاط إلى جانب حشد من معاوينهما المقربين، ما حمل أكثر من دلالة وعلامة تساؤل حول حضور السّفير المصري للعشاء دون غيره.
وقد نمى إلى وسائل الإعلام، أن الحريري فاتح جنبلاط خلال العشاء بمسألة تبادل الحقائب التي كانت إحدى القضايا العالقة بينه وبين التيار والرئيس نبيه بري، وقد تم ذلك بحضور السفير المصري، فكان وفق أكثر من مصدر، جنبلاط متعاوناً بحذر.
لكن ما مثل استغراباً قادَ إلى إدراك وجود معارضة من قبل الولايات المتحدة والسعودية لحركة الحريري و تأثيراتهما في الداخل بخاصة على المقربين منهم، هو انقلاب جنبلاط على "تعاونه الحذر" الذي أبداه أمام الحريري خلال العشاء، وذلك بعد تفضيله الخروج على وسيلةِ إعلام إماراتية ناطقة بالانكليزية، مخمناً أن "فرصة تشكيل الحريري للحكومة قريبًا ضئيلة ما لم يسحب أرنبًا من قبعته"، ما نصّب كلامه موضع الشك وأعطاه عدة تأويلات.
اللّافت للإنتباه أكثر، أن تصريح جنبلاط تلازمت ووصول مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي إلى بيروت، والذي نقل عنه توجهه بعبارات شديدة اللهجة حول حزب الله ، إضافة إلى مفاتحة من إلتقاهم من مسؤولين لبنانيين بقضايا تتصل بتشكيل حكومة وشكل تمثل حزب الله فيها، ملفوفة بـ"سلة إنذارات".
عموماً نجح الفرنسيون بإتمام عملية إستيلاد الحُكومة من خلال "وقوف باريس في الأشهر الأخيرة إلى جانبِ الشّعب اللُّبناني وقادته من أجل تهيئة ظروف التأليف"، وهو ما أعلنهُ الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد يوم تماماً من تشكيل الحُكومة، والذي أفصحَ عن الدور الذي يقرأه بعض السّاسة في بيروت على أنه "محاولة فك احتجاز أخرى قامت بها فرنسا من أجل تحرير الحريري".
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب
Follow: Lebanon Debate News