"ليبانون ديبايت" - قاسم يوسف
منذ إعلان لبنان الكبير وحتى لحظة اغتيال رفيق الحريري، كان البقاع برمته أشبه بقطعة جغرافية منسية، وكانت زعاماته التقليدية لا تتخطى حدود شوارعه وأزقته، ونادرًا ما استطاعت أن تلعب دورًا وازنًا أو مؤثرًا ضمن التركيبة السياسية والوطنية. هذا ما انطبق في البداية على العموم، لكنه عاد وصار هدفًا أساسيًا واستراتيجيًا لحظة وصول حافظ الأسد إلى رأس السلطة في دمشق، وذلك استنادًا إلى الطبيعة الجغرافية الحساسة وإلى الموروث التاريخي لخط الغزاة، وصولاً إلى الهوية المذهبية للنظام، والتي شكلت عاملاً حاسمًا في الإطباق على المنطقة بشكل عام، وعلى أي متحرك سني بشكل خاص.
من خارج كارتل الإقطاع والشخصيات المتواترة، حضر اسم ناظم القادري ولمع نجم سامي الخطيب. أهمية هاتين الحالتين الاستثنائيتين تتعلق بجملة من الخصوصيات الدقيقة، حيث أنهما شخصيتان بقاعيتان سُنيتان استطاعتا تجاوز سقف اللعبة المناطقية الضيقة إلى رحاب المشهد الوطني والعربي، وعبره إلى حضور وازن ومؤثر، وهذا ما استدعى اغتيال الأول وشطبه، ومحاكمة الثاني ونفيه.
كان سامي الخطيب ذاك العسكري النبيل الذي وجد ضالته في حضن اللواء الأمير، ثم صار حجر زاوية في نهجه الذي ضم كوكبة غير مسبوقة من أنزه الناس وأعقلهم وأحكمهم وأكثرهم قدرة على فهم لبنان وتركيبته وصيغته الفريدة. من فؤاد شهاب إلى الياس سركيس. حضر الرجل إلى جانبهم ببزته العسكرية وبعقله الأمني الخلاّق وبقدرته الاستثنائية على التوأمة بين براغماتية السياسي المخضرم وبين مبدئيته وما يفرضه عليه موقعه من حزم وجزم وقطع.
هذه التجربة تستدعي دراسة مكثفة ومعمقة، انطلاقًا من التكامل الموصوف بين الخصوصية اللبنانية والمد الوحدوي الذي تجلى في واحدة من أورع المشهديات السياسية على الإطلاق، عبر لقاء تاريخي جمع جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب داخل خيمة تنتصف الحدود الجغرافية بين لبنان وسوريا. ثم مع تجربته المثيرة في المكتب الثاني واستمرار النهج الشهابي مع شارل الحلو، وصولاً إلى النكسة المدوية مع سليمان فرنجية، والعودة إلى الجرح النازف مع الياس سركيس، ذاك الرجل الذي طالما بكى وهو يشهد مع رفاقه انهيار لبنان وانجرافه برمته إلى الهاوية.
استحال الرجل بعد هذا المخاض العسير ركنًا أساسيًا من أركان التسوية اللبنانية الواقعية والمعقولة والمتاحة، وهي تسوية لا ترقى إلى حدود عقيدته السياسية والعسكرية والوطنية، لكنها تظل أفضل الممكن لكيان هشّ بين كيانيين توسعيين، لا سيما عقب سقوط العروبة الكبرى وانجراف الأنظمة برمتها نحو إحكام قبضتها الداخلية بالحديد والنار، ثم الانتقال إلى لعب أدوار اقليمية قائمة على منطق القضم والتوسع وتعميم الحكم الديكتاتوري وطمس كل مساحات الحرية والديمقراطية في المنطقة.
عقب اغتيال رفيق الحريري وما نتج عنه من إخراج للجيش السوري، وبالتوازي مع انتفاضة لبنانية عارمة، تنفس الرجل الصعداء، وشعر بأن لبنان بدأ يسلك درب خلاصه، ليعود ويصطدم بالواقع المرّ، ويشهد في شتاء عمره على عودة هذه النظام وروحيته وأدواته إلى تصدّر المشهد السياسي في منطقته وفي عموم مناطق لبنان.
اليوم يفقد البقاع رجلاً كبيرًا من الرجالات الذين لعبوا دورًا محوريًا ضمن التركيبة السياسية والوطنية، وهو سيظل على الدوام محط مثل وجدل ونقاش. وعلى سجية رفاقه، من فؤاد شهاب إلى الياس سركيس وكل أركان هذه الحقبة المضيئة، أخبرني صديق عزيز أن الراحل باع في آخر أيامه قطعة أرض بجوار منزله بعد ضائقة ألمت به.
وداعًا أيها اللواء الشجاع. كنت وستبقى رجل دولة من الطراز الرفيع، وعلامة فارقة ومميزة في تاريخنا الحديث، ورمزًا بقاعيًا ولبنانينًا من قماشة الرموز الكبار.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News