"ليبانون ديبايت" - قاسم يوسف
ملأ الفراغ بالكلمة المناسبة. هكذا، وبكل اختصار، كان رفيق الحريري الذي فهم التركيبة اللبنانية العميقة كما لم يفهمها أحدٌ من قبله، فصنع معها وعبرها ركنًا أساسيًا من الحريرية المشتهاة، التي تجاوزت التقليد البليد إلى الابتكار الخلاّق، وجسّدت في كل أشكالها ومضامينها تلك الصورة الأشمل والأعمّ عن مشروع حيوي تخطى الراهنية وصار اسلوب حياة.
من الظلم والإجحاف أن يُختصر رفيق الحريري بالحريرية السياسية. هي كانت وستبقى ركنًا أساسيًا ومحوريًا من أركان حضوره وتألقه، لكنها لم تُشكل إلا الوجه المتقدم لحكاية مكتنزة بدأت بصناعة الإنسان، وتطورت في تشذيبه ودمجه، لتصل بنعومة ورشاقة إلى إعادة انتاج مجتمع بأسره، وهذا بحد ذاته عنوان الحريرية المطلقة، التي أرادها رفيق الحريري أن تكون وجبة كاملة ودسمة.
بسّط الرجل كل هذا التكثيف بصورة طالب يُقتلع من قريته الغائرة في الأطراف لتحط به الرحال في قلب واحدة من أعرق الجامعات في العالم، ثم كثّف كل هذا التبسيط بصورة الطالب نفسه الذي عاد وهو يدرك أن الحريرية المجردة استحالت جزءًا لا يتجزأ من هويته ورسالته وقضيته. هكذا، وبدون شرح أو مقدمات، ملأ رفيق الحريري الفراغ بالكلمة المناسبة.
على سجية هذه الرشاقة، أطلق رفيق الحريري مشروعه بالصوت والصورة. أراد لمنظومته الإعلامية أن تُشكل ساعده الأقرب إلى سواعد الناس، وأن يؤسس عبرها المدماك الأول والمستدام في إعادة صياغة الذائقة السياسية والاجتماعية والثقافية، وكان له ما أراد، حيث استطاع تلفزيون المستقبل أن يتجاوز الجغرافيا اللبنانية، وأن يحضر في عموم الفضاء العربي كواحد من أنجع صنّاع الوعي الجماعي، وأبرز سفراء الحرية والانفتاح واللبننة.
حين همّ القاتل بشطب رفيق الحريري كان يدرك أن كلفة ازاحته، مهما تعاظمت، ستكون أقل بما لا يُقاس من كلفة بقائه، وهذا ما بدا واضحًا على مدى عقدٍ ونيف، حيث لا شيء يوازي خسارته على الإطلاق، وهي خسارة تجاوزت كل المنزلقات والكبوات والأزمات التي عصفت بالبلد، ووصلت إلى ما يشبه المأزق الوجودي واليأس المركب، وكأن هذه البلاد قد تحولت مذاك إلى سجن كبير.
يقول سمير عطاالله في تعزية أولئك الذين يرثون ما لا قدرة لديهم على حمله أو مواكبته: عندما أسس كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي، جمع حوله أهم وأعمق وأكثر الرجال كاريزما، لكنه ظل الزعيم الوحيد. والتفَّت حول ريمون اده عصبة من أفضل الناس، وظل العميد الوحيد. ووقف الى جانب بيار الجميّل جمهرة من الألمعيين، وبقي وحده الشيخ بيار.
يكفي أن نُضيف اليهم اليوم رفيق الحريري، وأن نبكي معه على الأطلال.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News