"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
إكتشف تيّار المستقبل مؤخّراً أن العمل السياسي مدفوع الأجر "ما بطعمي خبز"، لذا قرّر إخضاع جسده إلى عملية جراحية في الأماكن الحسّاسة، تؤدّي إلى استئصال أورام خبيثة، ليُعاد ترشيد الجسد على نحوٍ صحيح، يبدأ بتصحيح الخلل في قاعدة الانتماء ومنهجها ومفهومها.
بالفعل، وضع "الازرق" يده على الجرح وبدأ بمراجعة نقدية ذاتية لمسار انتهجه منذ عام 2005، ووجد ان من يريد ان "يشتغل بالسياسي" عليه بناء حزباً عقائدياً لا من خلال "تيّار"، حزباً بمفهوم سياسي واضح، لا يجدر أن يتأثر أركانه بالاحوال المالية بالدرجة الاولى، بل ينبغي عليه ان ينزع المال من جذوره ويحل بدلاً عنه "رابطة عقائدية منهجية" تصلح لأن تكون "أساساً لحزب" يسير على مشيئة "بيي السنة".
الحديث عن حزب خالص الولاء، لا يقيم شرطاً للمال بل للعقيدة والمنهج والمفهوم والمبادئ السياسية التي يحتاجها من أجل بناء قاعدة مكتملة الولاء، لا تكريس مناصرين "مصلحجية".
طبعاً، هناك من يقول أن أحداً لم يضرب على يد المستقبل لكي يجبره على تقديم المال من أجل كسب المناصرين! وهو بنفسه لجأ إلى هذه الخطوة، علماً أن الامكانات الغير مالية التي توفرت له في الزمن الماضي، كعامل إستشهاد الرئيس رفيق الحريري مثلاً، كان يمكن ان تشكل عوامل رفد صحيحة كانت لتؤدي ربما إلى إنشاء تيار سياسي "معقدن" مختلف عن الذي نشهده حالياً، من دون الحاجة إلى المال.
وربما كان افراده لا يأخذون بالعملة كثيرة، لكن غياب التجربة والخبرة أديا إلى التفريط بتلك العوامل وجعلها استثنائية، ما اتاحَ لأبناء جلدة بيئته الذين يتقاسمون معه نفس المفاهيم، من الاستفادة منها ولو شكلياً والشروع ببناء زعامات ناشئة!
وحين أدركَ من هم قائمون على "المستقبل" بالفعل أن الحل اعلاه هو العلاج الشافي لمشاكلهم الداخلية، كان "تيّار المستقبل" يتشظّى تنظيمياً و ينفرط عقدَ أنسابه ومنتسبيه من حوله كأنهم السيل، ما جعل َخصومه "ينمّرونه" بتسرب عناصره أو قلتهم. وكنتيجة لذلك، إنكبَ في ملاك أمانته العامة على دراسة الحلول، ومحاولة الارتقاء بالحزب من عهد المال المتلاشي كـ"تيّار" إلى رحاب أحزاب المؤسسات كـ"حزب".
وعلى هذا النحو، ولدت فكرة زرقاء تقوم على مفهوم الإنتقال من التيّار إلى الحزب، من خلال بناء مؤسسات تنظيمية داخلية وإعداد صحيح للمنتسبين، يكون ولائها لصالح رئيس التيّار حصراً، الذي هو سعد الحريري، على أن يجري الإلتزام بذلك من خلال "بيعة علنيّة مطلقة" على السمعِ والطاعة!
الثقافة الجديدة، أتت من بنات أفكار الأمين العام لتيّار المستقبل، احمد الحريري، الذي تقدمَ قبل فترة بـ"مشروع قانون" يرمي إلى تحويل "تيّار المستقبل" من "تيّار خدمات" إلى "حزب منهج"، يجعل من العامل المالي دونياً مقارنةً بالعامل المنهجي - العقائدي - السياسي.
وقد اطلقَ الحريري مشروعه بالفعل تحت عنوان "آفاق المستقبل سياسياً وتنظيمياً" أخذاً بتعميمه على المُتّحدات و المنسقيات الحزبية كشكل ٍمن أشكال حملات الإنتساب الواسعة التي يسوّق لها بدقّة، لكنّها تقوم على قواعد مختلفة جذرياً عمّا كانَ معتمداً في السابق، أي أنّها مبنية على مفاهيم الإعداد الحزبي الأوّلي.
وفعلاً، جرى أوّل إختبار مبدئي للخطّة في البقاع الأوسط قبل أكثر من إسبوعين، حين أعلنَ "المستقبل" عن تخريج أوّل دفعة من المُنتسبين الجُديد تحت عنوان "آفاق المستقبل".
وما كان ملفتاً للانتباه في غروب ذلك اليوم، إعلان المُنتسبين انتماءاتهم الرسمية ليس من خلال قسم حزبي أدوه برفعِ اليد، بلّ من خلال تقديم "بيعة علنية مُطلقة للقائد الرئيس سعد الدين رفيق الحريري" تولّى إذاعتها المُنسّق العام للمستقبل في البقاع الأوسط، الأستاذ سعيد ياسين، تحت عبارة: "إني أبايع دولة الرئيس سعد الحريري بيعة مُطلقة".
على الأرجح، تُخطط قيادة "التيّار" إلى تعميم منطق "البيعات العلنية إلى القائد" بشكل متوالي في مناطق حضورها، بعدَ اختمار الاعداد التنظيمي في المُتحدات، ليكون "المستقبل" قد شرّع الأبواب على إنطلاقة بـ"صيغة مُتجدّدة ترتكز على التوعوية والاستنهاض السياسي لا العاطفة، وتأخذ في عين الاعتبار بناء هيكليته حزبية تنظيمية حديثة"، كما قال أحمد الحريري خلال كلمته.
لكن في نموذج الإعلان الكثير من المحاذير التي قد لا ترغب بها البيئة، وسرعان ما تسلل الحديث عنها إلى المجالس، إذ أن الاحزاب الحديثة لم تعهد بالفعل، ولا في أي تجربة، إرساء فكرة تقديم البيعة للزعيم، بل أن اعتماده كان على الاختيار عبر الانتخابات، وهذه تُسجّل ضد "المستقبل لكونه ما زال يلجأ إلى إجتذاب النماذج القديمة المعمول بها في الأحزاب الشمولية وإسقاطها على واقعهِ الجديد.
أمرٌ آخر، أن تجربة البيعة في مثلِ ما هي عليه، هي إحدى مِيزات التنظيمات الجهادية التي تعتمد منطق "البيعة العلنية المُطلقة" في اختيارها للقائد -الأمير-، والمستقبل اليوم في أحوج ما يكون إلى إرساء منطق الاعتدال لا التطرف.
في مطلق الاحوال، فإن "المستقبل" في صدد الانتقال من حالة إلى حالة، تُعيد هندسة "التياّر" وفق طرازٍ حديث، طراز يُزيل النمط السائد لديه في أن العمل الحزبي الاداري لا بُدَّ أن يكون منتفعاً أو مقروناً بمال، مقابل أن يصبح عملاً تطوّعياً كاملاً، يأخذ بعين الاعتيار هوامش "تفريغ" محدودة.
البعض يعتقد، أن "المستقبل" ذاهب نحو العمل "بالسخرة" بعد أن فترة طويلة قضاها في "رش" الملايين على أنصاره. مثل هكذا انتقالة ليسَ من السهل تحقيقها أو ارسائها لدى جانبٍ كبير من المُناصرين الذين "ركلجوا" انفسهم على اساس العمل كموظفين في حزب لا انصاراً فقط، وبنوا مستقبل حياتهم على أساس وظائف حزبية تتبخر من بين أيديهم اليوم، لها أن ترسي قواعد صراع جديدة تدور رحاها بين القديم والحديث.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News