"ليبانون ديبايت" - روني ألفا
تكثرُ الرماياتُ الصديقةُ عندما يتحوّلُ مكوثُكَ في البيت إلى ما يشبِه اعتقالاً. مناوشاتُ أَهْلِ البيتِ الواحد. تراشُقٌ أخَويٌّ على التافهِ والسخيف. يصحُّ فيه قولُ طَرَفة بنُ العَبد: وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مَضاضةً على النفسِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.
أنتَ حالياً في معتقَلٍ مزوَّدٍ كل مواصفات السجن الإحترازي. حياةٌ تتوفر فيها بديهياتُ التواصلِ إنما من دونِ احتكاكٍ شخصي.مِن دون تلاحُم ودّي. مِن دون ملاهٍ ليلية. أن تبتَعِدَ عن الآخَر هو أن تعبِّرَ له عن أواصِرِ اللُّحمة. قليلٌ من الهواءِ النقي ما زال متوفّراً في شرفتِك. مشاويرُكَ الطارئةُ تشكِّلُ بالنسبةِ إليك أملاً بأنَّ مَشاويرَ النَّزوات والرغبات ستكونُ ممكِنةً عاجلاً أم آجِلاً.
في العديدِ من البلدانِ سجونٌ ذكيةٌ تُختَصَرُ بِسوارٍ ممغنَطٍ يوضَعُ في المِعصَم أو بخلخالٍ يُطوِّقُ الكاحِل. يتيحُ لكَ هذا أو ذاك الإبتعادَ عن المعتقلِ مسافةً محددةً قبلَ أن يُطلِقَ صفارةَ الإنذار. كلُّ ما عليك فعلُه هو ممارسةُ طقوسِ الحرية بِنصفِ إِذنٍ، بنصفِ إرادةٍ وبِنِصفِ الوقت. تشعُرُ إذا صحّ التَّعبيرُ أنك سجينٌ طليقٌ أو مُعتَقٌ مُعتَقَلٌ لا فَرق. نحنُ في الوضعية نفسها. سِوارُنا جرثومة. بدل أن تُطَوِّقَ معاصمَنا وكواحِلِنا تطوِّقُ حناجرَنا ورئاتنا.
كورونا إذن هي هذا السوارُ المُمَغنَطُ إنما من دونِ قيودٍ مخفَّفَة. تنطلِقُ صفّارةُ الإنذار حالما تخضَع إرادَتُك لشيطان النُّزهة. حالما يتغلّبُ قرنُ البوظة على الطفل الذي فيك. أنتَ بفعلِ هذا الڤيروس أسير حَرب. لا يمكنُ أن تتأملَ بأن يُفاوِضَ أحدٌ على إطلاقِ سراحِك ضمن صفقةِ تبادلِ أسرى. كلُّ ما يمكنُك أن تفعله هوَ إيهامُ صَبرِكَ المُنهَك بأنه ارتضى لنفسه الحبسَ طائعاً مُختاراً. السبيلُ الوحيد للإفلاتِ من جنونِ الحَبس هو إخراجُ القُضبان من إرادَة الآخرين وإدخالها ضمن إرادةِ الذات. بمعنى آخَر تُصبِح أنت وحدَك السجّانَ والسَّجين لا ندَّ لكَ ولا شريك. تحجرُ على نفسِكَ متى تريد وتُطلِقُ سراح نفسك متى تريد.
لا أدَّعي أنَّ العمليةَ سهلة. فيها ما يكفي من الخَطَر لتولِّدَ حالةَ عُصابٍ ( Névrose) يمكنُ أن تتحوَّل إلى حالةِ ذُهان( Psychose). الأولى يتّضِحُ فيها لك الفرقُ بينَ لاعِب الدّورِ والدّور. علاجها مُتاح. الثانية يتماهى فيها الأصلُ بالصورة ويتصدّعُ الوعي وتصبحُ لملمةُ أجزائِه المتناثرة مستحيلةً أو تكاد. علاجها صعبٌ وغير مضمون النتائج.
كلُّ سُجناء الرأي مرّوا بالتجربة ذاتِها. حوّلوا زنازينَهُم إلى غُرَف. مراكز توقيفهم إلى فنادق. حوّلوا آمري السجون إلى موظَّفي إستقبال. الوعي يفرزُ فوراً وسائل صموده. أقواها الوهم. بالطّبع المسألة مسألة وقت. كلَّما طالت مدة التوقيف وقست ظروفُهُ كلّما انهارت بسرعة دفاعات الوَهم. في الحالة هذه يعترف الوعيُ بعجزِهِ عن المواجهة فينهارُ السجين داخلَ سجنِه.
كورونا يضعُنا أيضاً أمام معضلة نفسية. ننتظرُ بفارِغِ الصّبر لقاحاً يُحقَنُ في الجِلد. ننسى اللقاح الواجب حقنُهُ في نظامنا النفسي. نحنُ اليوم في مرحلةِ العُصاب. نلعبُ دوراً على مسرح كورونا. نمنَعُهُ مِن أن يكونَ سجّاناً. نقولُ له: خسِئتَ! نحنُ قادَةُ مصائِرِنا. قرَّرنا أن نحجُرَ على أنفُسِنا بمحضِ إرادَتِنا" . حتى الآن تبدو فرصُ الإنتصار والهزيمة متساويةً. إنما الوقتُ لِصالِح الڤيروس. مع تمدُّدِ إقامَتِنا القسرية سيتغلّبُ الحقيقي فينا على الكوميدي. سنكتشِفُ أن كورونا هو السجّان وأننا اختلَقنا كذبةَ حَجرِنا الإرادي لنصمُد.
سيكون عندها على عيادات الطبّ النفسي مضاعفة ساعات عملها. أدويةٌ جديدةٌ ستغزو سوقَ الذُّهان لم تكن بمتناولنا. الأرجح أن يتحوّلَ لقاح كورونا بعد أشهر قليلة إلى مستَحضَر سخيف مثله مثل البانادول. ڤيروس جديد أشد فتكاً على وشك أن يقلقَ العالم. تدمير ترسانَتِنا النفسية. هنا يكمنُ الرُّعبُ الأكبر.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News