"ليبانون ديبايت" - بِقَلَم روني ألفا
إرثُ مُحسِن سليم موغِلٌ في أصالِة الإنتِماء. أن يَكونَ زميلاً لريمون إدِّه في الكتلَةِ الوطنيَّة فهذا أكسَبَهُ ومضَةً عِلمانيَّةً مضادة للطائفية شكّلت في أواسِط القرن الماضي شيئاً مِن السورياليَّة في بلدٍ تقصِفُكَ فيه طائفتُكَ منذ صرخَةِ الولادَة وتكمنُ لَك لاحِقاً وتُميتُكَ ميتَةً ثانيَة بعدَ موتِك الأوّل بدفنك في مقبرة طائفية.
في لبنان كلنا نَموتُ مرّتَين، ميتَة بيولوجيّة وميتَة طائفيَّة. كانَ محسِن سليم يتقِن الجَمع بينَ تَنويرٍ مُرَصَّعٍ بلغة موليير وبينَ ثقافَةٍ عامِليَّة متجّذرَة. أوسمَة محسِن سليم جعَلَت مِن حارَة حريك مَدينَة للحَضارَة التي شكّلَ فيها النائِبُ الرّاحِل نَموذجاً شيعيّاً مُعَولَماً.
إغتيال المَغدور لقمان سليم يشكِّل نِصف مَوت. أسوأ أنواع المَوت أن تُضطَرَّ إلى تَعليقِ صورَةِ الفَقيدِ على جدران الذاكرة قبلَ أن يكتَملَ البرواز. لَم تكتَمِل العناصِر التي تتيحُ إماطَة اللِّثام عَن منفِّذي الجَريمَة النّكراء وإن كنّا لا نقرَبُ التناقضَ إن افترَضنا أن أعداء لبنان هم المستَفيدون الأُوَل.
بالطّبع الإغتيالُ مَقيتٌ ومُقزِّز. ملفِتٌ، مِن دون أن نتناسَى هاتَين الصِّفَتَين، حجمُ التعبِئَة الإعلاميَّة التي رافَقت هذا الحَدَث. المَطلوب كانَ أوّلاً ضَخُّ مجموعَةٍ كبيرَةٍ من التكهّنات والمَعلومات والوقائِع غير الدّامِغَة لِحَجب أي قضيَّة أخرَى عَن بانوراما الأحداث. كانَ المَطلوب ثانياً تَوظيفُ الجَريمَة سياسياً.
أوَّلُ نتيجَةٍ هيَ إستِثمارُ الحَدَث لِتسجيل نِقاطٍ " سياديَّة " وتَعزيزِ جبهَةٍ على حِسابِ جبهَةٍ ولو في الإعلام فقط. أيُّ مُراقِب جدّي لهذا المسار يعرِف أنَّ بدايَتَه ونِهايَته صورَة طبقَ الأصل عَن نموذَج التجييش الذي تعتمده أجهزَة المخابرات المتمرِّسَة في إطار تلاعبها بِتوازناتٍ هشَّةٍ مَطلوبٌ تأليبُ عناصِرَها المتنافِرَة ضدَّ بعضِها البَعض. ماذا يفيدُ ولَم ينقضِ على الجَريمَة ساعات أن يُتَّهَم طرفٌ واحدٌ بالمسؤوليَّة عَنها؟ لا شيء سوى بثّ الفَوضى وانتِظار ترجَمَة التّصعيد السياسي إلى فوضى أمنيَّة.
لقمان سليم تتمة والِدِه. الشّهيد سليم شهيد رأي؟ بالطبع مع التأكيد أن دمغه بتسويق سياسي يبقى فِعلاً قصير النظر والقامة بالمقارنة مع فعل شهادة بهذا الحجم. بالطّبع سيكون الحَديث عَن حريَّة التعبير في لبنان حَديثاً طوباويّاً إذا أصرّينا أن كُتّابَ الرّأي ليسوا في خطر. بالطّبع لا. لَكِن ضحايا الرّأي البَحت في لبنان لا يتمّ إغتيالُهُم. يعتَقِلُهُم النّظام ويتولّى نَقيب المحامين والجمعيات الحقوقية إخراجَهم بقوّة الحَق.
في لبنان يُغتالُ ضَحايا الدّول العَميقَة. الفاصِل بينَ الكتابة في الحرية والإنكشاف أمام الدولَة العَميقَة يكاد يَكون غير مرئي. عندَ ولوج هذه المنطقَة تتعرّض حكماً للإلغاء. عندَما تتحوَّل إلى مادّة دسِمَة بينَ أيدي لاعِبين كِبار تتحوّلَ وبسرعَة قَد لا تتصوَّرها إلى ضَحية بين مِحوَرين. بعدَ إزاحَتِكَ عَن المشهَد سيقرأُ الناس عنكَ بيانات شَجب وإستنكار وإدانَة بأشد العبارات دونَ أن يتصوّروا أنها صادرة ربما عَن الذينَ قَتلوك. هذه مِن بديهيات التَّماس مَع الدُّوَل العَميقَة.
غالبُ الظنّ أنَّ الجريمَة ستنضمّ إلى سابِقاتِها التي تشبِهُها. إغتيال. إدانَة. إتهام ثمَّ التوجّه بسرعة قياسيَّة إلى أدراج النسيان. جرائِم الدّول العَميقَة تُقتَرَف لأنها لا تُكشَف. ولا أيّ خيطٍ فيها مَسموحٌ لَه أن يَظهَر. لقمان سليم مناضل مثقّف. منفَتِح. مُحاوِر. لَبِق. لَم يترُك بلدَتُه بسبب آرائِه. بعضُ مَن يدين مقتلَه في لبنان وخارج لبنان شريك في الجَريمَة. أَسأل. ماذا تَجني المقاومَة من إغتيالِ رجلٍ يخالِفُها الرّأي؟ في لبنان عشرات الكتّاب يخاطِبونَها بالإبتِذال وبذيء الكَلام. لقمان سليم لَم يَكن مبتَذلاً ولا بذيئاً. هَل يمكن الإفتراض مِن دون تناقض أنَّ مشروعاً على عَتَبَة تَحقيق خروقات إستراتيجية ذات بعد دولي وإقليمي يُخاطِر بإغتيال قادَة رأي لا تغيِّرُ أفكارُهُم وأقوالُهُم شيئاً مفصلياً في المعادَلَة؟
لَقَد دَخَل لقمان سليم في عزّ اندفاعته الحالمة بسَراب وطن، دَخَلَ ببراءة طفلٍ ناضج في المنطقَة العازِلَة بينَ حقبَة راحِلَة وأُخرَى آتيَة. الأولَى لا تتسعُ ذاكرتها له. الثانية حُجِزَت فيها جميع الأمكنة. تصريح بالخروج من الأولى ومنع دخول الى الثانية. صارَ لقمان سليم بكل بساطَة دماً مسفوكاً كَرمى لحقبتين.
نتأسَّف على لقمان سليم معارِضاً ورَجُلاً صادِقاً. نَبكي عَلى بلَدِنا أيضاً الذي زجَّ بِنا في ملعَبٍ لَم يُعطَ لنا فيه سِوى دَور الطّابَة. أحياناً نسجِّلُ الأهداف في مرمانا. أحياناً تَكونُ الرّفسَة قويَّة فنفقِدُ دَورَ الطابَة أيضاً. لقمان سليم أحد ضَحايا هذا المَلعَب الحَزين
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News