"ليبانون ديبايت" - عبدالله قمح
بهدوء، بدأت بكركي إحصاء ما ترتّب عن "تجمّع السبت". ما هو ظاهر، يدلّ على إجراء قراءة هي أقرب إلى إعادة ترتيب للعلاقات بنكهة التنصّل، بعدما بلغ الصرح من الأذيّة ما بلغ!
كان لا بدَّ للبطريرك بشارة الراعي أن يعيد ترتيب مواقف السبت، وما تخلّلها من ردّات فعل ضمن إطار أفضل وأقل هدوءاً، سيما لجهة الرئيس، بعدما جسّدَ "سيّد الصرح" خروجاً عن المألوف المتجذّر في مفاهيم البطريركية وتاريخ العلاقة مع رئاسة الجمهورية، فكان أن وجد في المقابلة مع قناة "الحرّة" مخرجاً حمل نكهة "تسوية الأوضاع". أعاد الراعي هندسة مواقفه باتجاه أكثر شمولاً: خفّف من تناوله لـ"حزب الله" رغم محاولات "الزَرك"، و "دَوزَن" العزف على وتر الرئاسة، وخفّض من وتيرة استهداف " التيار" ، ثم حاول إبراز دوره كتجسيد لحالة النصح السياسي. لكن ذلك لا يكفي، فمن ضرب قد ضرب! في ضوء ذلك، عكفت بعبدا على تقييم المتغيّرات.
ثمة من يتفهّم حماس البطريرك الراعي، على اعتبار أن للمنبر المرتفع فوق الجماهير تأثيره على الأداء، لكن ما لم يُفهم إطلاقاً، طريقة تعامل "سيد الصرح" مع بعض السلوكيات التي طغت على المشهد "من تحت"، إلى حدّ تجاهل العبارات والصيحات والمواقف، وما حملته من تعدٍ لفظي واتهامات تضمر شراً، والانكفاء نحو تجميل الفاعل أو تبسيطه، غداة سيل التساؤلات التي انهمرت على بكركي.
ونكاد نقول أن ما استوطنَ نفوس من حضر، جاء من خلفية السعي إلى إسقاط نزع سلاح "حزب الله "، أو نقل المعركة في وجهه إلى إطار أكثر شموليةً مع انضمام بكركي، وفي ظل الحديث عن "مواجهة الإنقلاب"، وما يستبطن ذلك من اتهام صريح للحزب، ما يبرّر العمل لإخراجه من المعادلة السياسية، وهو ما أعفى الآخرين من بذل جهود مضنية لإسقاط نتائج خطاب السبت، حيث أن تلك السلوكيات وما تبعها تكفّلت بالمهمة على أكمل وجه، بشهادة ردّات الفعل واستدارة الراعي نحو التهدئة.
بالهدوء ذاته تعاملت "الأهداف المفترضة" من "صيلة السبت"، "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، عرفا كيف يمتصّان الموقف، فجهدا في سبيل ذلك. الأول تعامل إستباقياً مع الحدث من خلال المزايدة على بكركي بالطروحات، وإعادة تذكيرها أن ما تطرحه، يندرج ضمن نهج وثقافة العونيين تاريخياً، بينما الثاني تعامل ببرودة أعصاب شديدة، وقد انسحب ذلك على ردود أفعال من يتحرّك في فلكه، وها هو يمضي في اتجاه إعادة تفعيل "لجنة الحوار" مع بكركي، وهو مؤشّر إلى عزم الضاحية في الإلتفاف على خطوة التسلّل إلى الصرح واتخاذها موضع قنص تجاهه من شرفاتها، نحو إعادة لملمة أشلاء العلاقة، وإعادة بنائها وفق مفاهيم سليمة.
ولـ"حزب الله" قراءته الخاصة، هو يعتبر أن ما تخلّله "التجمّع" من استهداف له، ينمّ عن محاولة لاستدراجه إلى ردّ فعل. والحزب في سلوكياته وأدبياته، يتحاشى ردود الفعل على رجال دين متى جرى تناوله في السياسة، لطبيعة هويته الدينية، وكي لا يُستغل ذلك في مجال التسويق لأحقاد أو ممارسة أفعال سلبية. أضف إلى ذلك، أن الراعي لم يأتِ على ذكر "حزب الله"، تماماً كما لا يأتي الحزب على ذكر بكركي.
ثم أن الحزب، وفيما لو أراد التصعيد، لكان مثلاً قد دعا، وعبر أطر مختلفة، إلى تحرّك في الشارع، ومن المؤكد أن ذلك التحرّك، وفي ظل الإستقطاب الذي توفّرت ظروفه السبت، كان سيؤدي إلى اجتذاب عشرات الآلاف، أي ما يفوق ما احتوت عليه باحة بكركي، وعندئذٍ سيُستغل ذلك في الإيحاء أن الحزب يُحرّك شارعه رداً على البطريركية أو في مواجهتها، ويلعب لغة الأرقام، وهو ما سيكون مادة تُوظّف في الحشد والإستقطاب المذهبي لدى الشارع المقابل، في مشهدية أقرب إلى عام ٢٠٠٥ ومظاهرة ٨ آذار التي استغلّت لتأمين حشد الرابع عشر منه.
بهذا المعنى، تخلّى "حزب الله" عن أداء أي دور، وترك الأمور تهدأ، وما خرج إلى الشارع وجرى تصويره إعلامياً على أنه تحرّكات بإيحاء مباشر منه، ما كانت سوى حركة عفوية غير منظمة، وهو ما ثَبُتَ لدى الأجهزة الأمنية، بدليل تحرّك مسؤولين في أمن الحزب في محاولة لاحتواء "حركة الدرّاجات" ومنع تمدّدها أو توسّعها إلى ما هو أبعد من الضاحية، ما أسّس إلى نزع فتائل تحرّكات عدة مماثلة كانت ستشهدها الأيام التالية.
في المقابل، ثمة من يُكثر في قراءة تناقضات البطريرك التي أرخت عن مشهدية السبت وما تلاه، بوصف ذلك الإطار الأفضل لقراءة ما يدور في ذهن بكركي. فالبطريرك، نادى بالحياد السبت وأعاد تكرار ذلك الأثنين معطوفاً على توجّه نحو مؤتمر دولي، وهو ما يتناقض مع طلب الحياد عينه. ذكر السيادة في معرض كلامه أكثر من مرة، ثم جرّ إليها الحياد، والحياد والسيادة مفهومان يتناقضان طالما إننا في محيط لا يرى سيادة لبنان إلّا امتدادات له!
ذكر أيضاً "الإستراتيجية الدفاعية"، ومنها إنطلق نحو دعوة "حصر السلاح"، وهذا أيضاً يتناقض مع مفهوم الحياد الذي يدعو إليه، فكيف يكون سلاح واستراتيجية دفاعية في معرض إعلان الحياد المزعوم؟
سيل التناقضات لم يهدأ. من تواصل مع بكركي غداة "حفلة الشتائم" في باحة الصرح، نقل أن الراعي جنحَ نحو الدعوة إلى مؤتمر دولي، بعدما ساد الوجوم الطبقة السياسية، وبعدما تأكد له أن تأليف الحكومة هو مسألة طويلة ليست على جدول أعمال الساسة، وقد لمسَ ذلك خلال سريان مفعول مبادرته. في مقامٍ ثانٍ، ردّ الصرح السائلين قبيل "السبت" من أن دعوة الراعي "حُكميّة"، بمعنى أنه عثر على أصل داء الوطن والذي يمكن إختصاره بأزمة حكم، ولذلك، يدعو إلى مؤتمر دولي كي يجري استئصال هذا المرض ويُعاد ترتيب الأولويات وفق مساحة واضحة أكثر!
وفيما لو صدقَ ذلك، هذا يفترض أن يُعيد طرح أكثر من عنوان ونهج في الدولة قد يضرّ المسيحيين قبل غيرهم. ثم أن فكرة الدعوة إلى المؤتمر الدولي، مسألة لا يعوّل عليها في ظل ما لاقته من مواقف ضبابية وتساؤلات، خاصة لدى الفريق المفترض أنه حليف لبكركي. فوفد تيّار "المستقبل"، الذي حضر أمس الأول إلى مقر البطريركية، عرّج خلال "القعدة" على قضية المؤتمر، وكان واضحاً في أنه يحاول التهرّب من الردّ على المضمون، واستلحاقاً لنفسه، عمل النائب سمير الجسر على تأمين تخريجة على شاكلة إعلان الإنضواء في خانة "إعلان بعبدا"، إنسحاباً للوفد من الحَرَج!
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News