فتات عياد - التحري
في احتفال أقيم في السراي الحكومي أمس، تم إطلاق موقع "المرصد الوطني" الإلكتروني، وهو عبارة عن مبادرة فردية ملحوظة للأمانة العامة لمجلس الوزراء انطلاقا من موقعها الذي تتقاطع فيه جميع إدارات الدولة. لا بل ظاهرة –غير متوقعة- من الإدارات الرسمية اللبنانية، التي لطالما اشتهرت بالبيروقراطية والروتين الاداري، أن ترعى المبادرات، وتحرص على تنفيذها. والمرصد إذ يعرض معلومات إدارية يضعها بين يدي المواطن، هو أشبه بـ "جرعة" وحيدة في مشوار بعيد المنال، لتطبيق المكننة في شتى الإدارات اللبنانية.
وفي عز الانهيار اللبناني، ومع تفكك الدولة من بوابة مؤسساتها، كان آخر ما يتوقعه اللبنانيون، أن يبادر موظفو المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء، بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، على الرغم من شح البنزين والكهرباء وظروف العمل الصعبة لتوثيق معلومات وتبويبها بطريقة يسهل الوصول إليها عملاً بمبدأ "ضمان الوصول الى المعلومات" المصان قانونا، وفي بلد احتل المرتبة 149/180 على مؤشر الفساد العالمي للعام 2021، ويفتقد الحوكمة كممر إلزامي للإصلاح الإداري فيه ومحاربة الفساد وتعزيز الشفافية.
لكن هل تكفي هذه المبادرة كمرجع للبيانات الحكومية؟ ثم هل تخدم المكننة كخطوة أولى في مشوار الألف ميل؟ وماذا عن شوائبها؟
المرصد الوطني
في البدء لا بد من الإشادة بهذا "المرصد الوطني" النابع من مجهود فردي لفريق عمل يرأسه أمين عام مجلس الوزراء، القاضي محمود مكية إذ لا تملك الدوائر الرسمية في لبنان، طاقة كبيرة على تحمّل نفقات مكننة الإجراءات الإدارية وأرشفة الملفات وتفعيل إدارة رقمية كاملة متكاملة، كما هو مفترض طبيعةً في بلد "طبيعي".
أما في التفاصيل، وعلى "أرزة لبنانية ذهبية" يقدم المرصد 9 ملفات بصيغة الـ PDF، ويتضمن توثيقاً لمعلومات "تم تبويبها وتجميعها بطريقة تسهل للجمهور الإطلاع عليها".
وهو موقع الكتروني متواضع لناحية الشكل، يعرض في صفحة الكترونية واحدة، تسعة مواضيع. ويتيح الضغط على كل موضوع، تنزيل الملف المخصص له كاملاً. والمواضيع هي: "الإصلاحات، اللجان العليا المشتركة والشراكة مع الإتحاد الأوروبي، الخصخصة والشراكة، النصوص التطبيقية للقوانين النافذة، تنمية مستدامة، حقوق الإنسان، مشاريع البنى التحتية لمدينة بيروت، الأبنية المستأجرة، وأخيراً مجموعة من أرقام هواتف ونقاط اتصال مهمة للوصول إلى المعلومات".
وتم إنشاء المرصد كمرجع "لتجميع" و"عرض" بيانات الإدارات العامة، اي ان لا شيء جديد لناحية نوعية المعلومات ومصادرها، إذ لا تحليل للبيانات ولا تقويم لمضمونها. وهي مبادرة تطلبت جهوداً بلا شك، لكن فاعليتها تبقى هامشية، سواء لناحية سهولة النفاذ الى هذه المعلومات من مصادرها، او لناحية صعوبة تحديثها في المرصد حيث تم تجميعها.
من جهة أخرى، وإذا كانت الإدارة اللبنانية قادرة على إطلاق المبادرات، فلماذا القبول بأنصاف الحلول إذاً؟ ومن يتحمل مسؤولية عرقلة الحكومة الالكترونية؟
التحول الرقمي... ضرورة ملحة
ومن المعروف عن القطاع العام في لبنان، الذي يضم حوالي 350 ألف موظف، تضخم حجمه عبر التوظيفات العشوائية. وهذا القطاع الذي نخره الفساد ومنه حصلت عمليات نهب للمال العام، تهدد الحكومة الالكترونية واقعه الفاسد، عبر إجراء المعاملات الكترونيا، ما يعني التخلص من البيروقراطية والرشاوى، وتعزيز النزاهة والشفافية. وكل هذه الأمور لا تتعايش وحالة الفساد الراهنة، لا بل أنها تعني انكشاف خيوط الفساد على مدى عقود من العمل الإداري، وتطيير رؤوس كبيرة.
والتحول الرقمي للدولة، وتطبيق الحكومة الالكترونية e-government، كان ينتظر أن يخرج عن وزارة التنمية الإدارية، ليس وأن يطبق مرة واحدة او على دفعات، في كافة الإدارات اللبنانية، فأهميته تكمن بربط البيانات ببعضها البعض، واستخدام المصطلحات نفسها، أي توحيدها لوضعها بين يدي الجمهور، إضافة إلى التحديث المستمر لهذه البيانات. وعكس ذلك، يزيد كلفة المكننة على الخزينة، ولا يحقق الأهداف المنشودة.
من هنا يتضح أن "المرصد الوطني" خطوة مشكورة إنما غير كافية، إلا إذا كانت بمثابة "دفع" تستتبعها مكننة شاملة للإدارات العامة، وإلا، لن يكون هذا المرصد أكثر من إحصاء تم إعداده في تاريخ معين، والرجوع إليه لن يعود على الباحثين بالكثير من الإفادة، سيما وأن تعديل بياناته يعتمد على جهود فردية، فيما المرصد قائم أساساً على "مبادرة".
وفي مسح عالمي أجرته إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى الأمم المتحدة، عام 2020، حلّ لبنان في المرتبة 127 من أصل 193 دولة عالمياً بمؤشر 0.4955 لتنمية الحكومة الإلكترونية، وحلّ في المرتبة 148 عالمياً بمؤشر 0.333 بالنسبة للمشاركة الإلكترونية. ومع أن التحوّل الرقمي وُضع ضمن أولويّات البيان الوزاري لحكومة سعد الحريري عام 2019، لكنه بقي حبراً على ورق.
وطوّر مكتب وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR استراتيجية التحوّل الرقمي الشاملة، إلى 80 مشروعاً تمّ الرصد المبدئي لتمويلها من خلال منح من البنك الدولي بقيمة تصل إلى 100 مليون دولار. وفي زمن الحديث عن "الإصلاحات"، فإن أي إصلاح جدي للإدارة اللبنانية لا بد أن يمر بالمكننة، وإذا كانت الأموال متوفرة لتمويلها، لا تفهم العرقلة إلا إمعاناً في الفساد، وهروباً من الشفافية والمحاسبة.
صعوبة التعديل
ومع أن القائمين على المبادرة أكدوا أن "المرصد الوطني" سيكون خاضعاً "للتيويم المستمر من خلال مواكبة مسار بنوده، إما تنفيذا وإما تعديلا تبعا لرغبة الإدارة المعنية والسلطة صاحبة الاختصاص"، لكن تعديل المعلومات بشكل دوري لمرصد "منفصل" عن باقي المواقع الالكترونية لإدارات الدولة، دونه صعوبات كثيرة، فالملفات التي يحتويها المرصد يتم تنزيلها على الأجهزة المحمولة كـ"ملفات" بصيغة PDF، ما يعني أن تعديلها لن يكون عبر "سيستم" أو نظام مربوط بالإدارات الرسمية مباشرة، ما يتطلب فريق عمل متخصص للقيام بمهمة التحديث هذه، وهو بالتأكيد أمر يتطلب فريقاً ثابتاً، ويستنزف وقتاً.
فالتعديل يجب ان يتم بشكل دوري كي يواكب التحديثات الحاصلة. وهو يعتمد بشكل أساسي على تجاوب ادارات الدولة وموظفيها، لناحية الإبلاغ عن التعديلات المطلوب تحديثها.
وتنخفض حظوظ تحديث هذا المرصد، سيما مع تعذر تحديثه تلقائياً، وصعوبة الاعتماد على موظفين "متطوعين" لتطويره، في ظل انهيار الأجور على وقع انهيار الليرة، ما يؤثر على نفسية العاملين في القطاع العام بطبيعة الحال.
وجّ الصحارة
ومع أن جزءاَ لا يستهان به من بيانات المرصد متوفر في الجريدة الرسمية ولدى بعض مواقع الوزارات والإدارات العامة، لكن بعض المواطنين قد يفضلون اللجوء لموقع واحد لتتبع المعلومات الإدارية.
أما بالنسبة للصحافة الإستقصائية، فهي ستستفيد من المرصد كمرجع موثوق إنما من الصعب أن تعتمد عليه كحل سحري لمشاكلها لناحية العوائق نحو حق الوصول للمعلومات.
فمثلاً، وفي موضوع الأبنية المستأجرة، وأمام العدد المهول للمباني المستأجرة للدولة، والذي يتخطى الـ 1300 مبنى، حيث تتجاوز إيجاراتها المليوني دولار، لا تظهر عقود الإيجارات في المرصد أو اي تفاصيل حولها، ولو وجدت، كانت لتشكل خيطاً رفيعاً في مسار تتبع قضايا هدر للمال العام.
وإذا كان من أعدّ هذا المرصد هم موظفو إدارة عامة، فمن المهم أيضاً، الإشارة إلى أن أول المتضررين من قانون حق الوصول للمعلومات في لبنان، هم موظفون أيضاً في الإدارات العامة! ما يعني أن هذا المرصد بمعلوماته "الأولية"، ليس أكثر من "وج الصحارة" للدولة اللبنانية. وعادة ما يكون هذا الوجه الذي يطفو على السطح، هو "الأجمل"!
ويمكن الاطلاع على شرح تفصيلي عن "المرصد الوطني"اعتبارا من اليوم، الاطلاع على المرصد عبر الدخول على الرابط التالي: sg.pcm.gov.lb .
بدوره، أكد مكية أن "المرصد الوطني" هو عمل "إداري بحت"، وإذا كانت هذه المبادرة "إدارية بحت"، لكن الفساد في لبنان سياسي، والعلاجات كذلك. ما يعني أن أي انطلاقة جدية للبنان نحو الإصلاحات والحوكمة، لان تحصل إلا بنهضة حقيقية في الإدارات العامة، كمّاً ونوعاً ونوعية!
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News