في وقت لا يخجل فيه إعلاميو وصحافيو المنظومة من تحميلهم مسؤولية سقوط لبنان في قعر جهنم، للشعب اللبناني، وفيما "ينظّرون" على الناس بـ"وجوب الثورة على الوضع"، جدّد هؤلاء أول من أمس خياراتهم وولاءاتهم للسلطة، وقالوا كلمتهم في صناديق انتخابات نقابة المحررين، لتفوز لائحة "الوحدة النقابية" بالكامل والتي تضم النقيب السابق جوزف القصيفي المزمع انتخابه لدورة ثانية، ليثبت هؤلاء إلى أي مدى تخضع نقابة المحررين للأحزاب في لبنان، وكيف أن تطويع السلطة الرابعة، كان بمثابة "حصانة" لتلك الأحزاب على مدى عقود، حصانة حمتها من المحاسبة من قبل الرأي العام. ليطرح سؤال بديهي، ألا وهو: من يحاسب الصحافة المرتهنة للمنظومة الفاسدة في لبنان؟
ومن يحاسبنا نحن الصحافيين إذا ما أخطأنا بحق وطننا والحقيقة والرأي العام؟ ومن ذا الذي يحاسب نقابة تقفل أبوابها بوجه مستحقي الانتساب من المستقلين عن المنظومة وغالبيتهم من الفئة الشبابية، ما يمنع عن النقابة ضخ روح الثورة فيها والتغيير؟ وكم من لبناني سمع بانتخابات النقابة أصلاً؟! وكم من لبناني يترحم في عز انهيار لبنان اليوم وتعدد الاحتلالات فيه، على قامات صحافية دفعت الدماء في سبيل مهنة الحريات والتعبير؟
وخمسة دقائق "بالكتير" كان حجم أطول تقرير إخباري قام بتغطية انتخابات نقابة المحررين، التي فازت بها لائحة الأحزاب مجتمعة. ومع أنه وفي لحظة تلاوة جوزف القصيفي لبيان الفوز كان صحافيون غير ممثلين في نقابتهم، يثورون على أداء النقابة الخاضع للسلطة ويطالبون بحقهم المشروع في الانتساب لنقابتهم في آن، مرّ خبر "بهدلة" الفائزين على المحطات مرور الكرام. وكأنّ الإعلام اللبناني لا يستقوي إلا على الشعب، وكأنه أعلى من المحاسبة، وكأن حقوق الصحافيين لا ترقى لمستوى تغطيتها، من قبل الصحافيين أنفسهم، أصحاب الحق! وكأن من سلاحهم "الكلمة"، عاجزون عن قول كلمة حق، تعيد للسلطة الرابعة في لبنان، "هيبتها" التي فقدتها شيئاً فشيئاً مع تطويعها وتشبيكها العميق مع السياسيين!
السلطة الرابعة الخانعة!
وفازت لائحة السلطة وسط إقبال كثيف بلغت فيه نسبة المشاركة73%، فيما سجلت جمعية "لادي" لمراقبة الانتخابات عدة مخالفات، وقد كشف موقع "التحري" عن مخالفة فاضحة تمثلت بتصويت إحدى الناخبات دون المرور بالعازل، وبموافقة رئيس القلم وعلم منه.
هذا وفرض المعركة صحافيون أحرار تمردوا على قاعدة الفوز بالتزكية، وكان السخط على خضوع نقابتهم للسياسيين، وكان توقهم لاستعادة مكانتها الوطنية، أساساً في تبنيهم أولوية فتح جدولها بوجه المنتسبين. ونذكر منهم: أنطوني جعجع، نهاد طابوليان، مي أبي عقل، يقظان التقي وحبيب شلوق (الذي حاز 199 صوتاً، وأتى في المرتبة الأولى من الخاسرين).
وحشد صحافيو السلطة أتباعهم في النقابة لنجدتهم من أي فرصة للخرق، ووقفوا على مسرح الاتحاد العام العمالي لقراءة بيان فوزهم، وارتسمت على وجوههم ضحكات صفراء فيما كانت الهتافات تعلو ضدهم وتكاد تغطي على خطاب النقيب.
ولم تكن وحدها "صفراء" ضحكاتهم، فعيونهم كانت صفراء وكذلك قلوبهم، فهم "لا يملكون الحقيقة" كما يقول أحد الصحافيين المرشحين الخاسرين، الذي كان له شرف محاولة التغيير من الداخل. وهم "مومياءات حية" كما تقول زميلة له.
وهم بطبيعة الحال يمثلون نقابة "هرمة" ليس بأعمار السواد الأعظم من منتسبيها، بل بالسواد الذي يغشي قلوبهم، ويجعل ولاءاتهم مطلقة للمنظومة التي أفقرت اللبنانيين وجوعتهم وذلتهم، وفعلت بهم ما قد لا يفعله احتلال.
والتصويت لمجلس نقابة مفروز حزبياً، يشير إلى أي نوع من الأقلام وضعت أوراقها في صناديق انتخابات النقابة، أقلام اتخذت التطبيل لهذه المنظومة لها مهنة، وتخلت عن نقل صوت الناس وألمهم، وتتسبب بإعادة انتاج هذه المنظومة من جديد. وهي لجريمة موصوفة بحق الرأي العام، فالترويج للفاسدين والمجرمين والسارقين، عبر أقلام تمتلك "الكلمة" و"السلطة" في صناعة الرأي العام، تقع عليه مسؤولية معنوية وأخلاقية عن جزء من خيارات هذا الشعب، لا سيما منه المحزبون!
وهي نقابة "استقبل" و"ودّع"، فيما اللبنانيون لا يستقبلون الا الأزمات ويودّع الفرح قلوبهم. هي نقابة "تقول" و"تضيف" و"تستطرد"، ولا يضيف من إضافاتها شيء لتحسين وضع الصحافيين الذين طالتهم الأزمة الاقتصادية وأهدرت حقوقهم وطردوا تعسفياً. وفي مشهد سريالي غير مألوف عالمياً، فقبول المنتسبين الجدد خاضع لموافقة نقابة الصحافة (وهم مالكو الصحف ووسائل الاعلام). وفي أي بلد في العالم تأخذ نقابة العمال (وهم الصحافيون في هذه الحالة) الإذن من نقابة أصحاب العمل، لصون حقوق العاملين فيها؟!
والنقابتان "دافنين" حقوق الصحافيين "سوا"، فيما اعتادت نقابة المحررين الفوز عبر تدجين الناخبين. ومع هذا، فإن زهاء 200 شخص انتخبوا صحافيين مستقلين (من أصل 669 شاركوا في الانتخابات من أصل 910 ناخباً) على الرغم من صعوبة الانتساب للنقابة وخضوعه للاستنسابية، وهي حالة سخط يبنى عليها ولو أنها لم تسجل خرقاً بالعملية الانتخابية.
أما الخرق للحظة الفوز، فأتى من قبل صحافيين مستقلين غير منتسبين للنقابة، غالبيتهم منتسبون لتجمع "النقابة البديلة" الذي خاض الانتخابات عبر المرشحة إليسار قبيسي (التي حصدت 92 صوتاً) بهدف مراقبة العملية الانتخابية ورفض ارتهان النقابة للسلطة.
وأتى الخرق عبر أصوات مستنكرة حرمانها الانتساب للنقابة، ليوقظ هؤلاء "النائمين" من نشوة فوزهم، ويضعهم أمام حقيقة أن الثورة طالت نقابة المحررين أيضاً، وأن بقاء الصحافيين الشباب خارج نقابتهم لم يعد ممكناً بعد اليوم، وأن أداء النقابة الخاضع الخانع الجبان، لا يليق بحجم الأزمة الوجودية التي يمر بها لبنان. ولا بدّ من استعادة دورها النضالي والوطني المغيّب.
والسلطة الرابعة ارتأت أن تصبح شريكة مع المنظومة، لا رقيباً عليها. وهنا، ألا يَسأل اللبنانيون أنفسهم لماذا "يتبهدل" المسؤولون السياسيون في الأماكن العامة فيما يعطون الهواء على شاشات التلفزة لتبييض صفحاتهم وتبرير تهربهم من المحاسبة والمثول أمام القضاء حتى في قضية انفجار مرفأ بيروت؟ وألا يَسأل اللبنانيون من أين تأتي وسائل الإعلام بالمال السياسي؟
في المقابل، ألا يَسأل الصحافيون أنفسهم، هؤلاء المستقلون منهم، هم الذين غطوا انتخابات النقابات جميعها، من المهندسين للمحامين للصيادلة والأسنان، ألا يسألون نفسهم كمحرضين على التغيير وداعمين له بمواقف خاصة عبر صفحاتهم الاجتماعية، لماذا لم يقف اللبنانيون -حتى الثوار منهم- معهم في معركتهم أمس الأول ولم يكونوا على علم بها بالأصل؟
وربما لأن الصحافة في لبنان -بغالبيتها- لم تعد صوت الناس منذ زمن بعيد، وأي درك هذا الذي يجعل الناس فاقدي الثقة بالجسم الإعلامي في بلد الحريات ومنارة الشرق؟ في بلد انطلقت منه المطبوعات وصدرت بعدها للخليج؟ ومن قال أنه وجب تحرير القضاء وحده من الارتهان للمنظومة؟
لاستقلالية الصحافة!
وإذا كانت استقلالية القضاء تكرس العدالة وتؤسس لدولة القانون، فإن استقلالية الصحافة تسقط عروش السياسيين، إذ أن "كشف الحقيقة يعني أنّ لا حماية بعد اليوم للمجرمين، أياً كانوا، وأينما كانوا"، وفق الصحافي الشهيد جبران تويني، والكلمة الحرة تحرض الرأي العام على الفاسدين وتمأسس للتغيير!
من هنا، نحن الصحافيون الذين نملك سلاح الكلمة، وما بخلنا عليه بنقل صوت الناس ووجعهم وألمهم، كان لا بدّ لنا من نقل وجعنا والمطالبة بحقنا، ومشهدية الهتاف ضد أداء النقابة لحظة فوزها، كان بمثابة ثورة في سبيل الضغط لنقابة فاعلة تحمي المنضوين إليها من استدعاءات الدولة البوليسية والقمع والتهديد وصولا إلى القتل. وآخر القافلة كان قتل الشهيد لقمان سليم، الذي وللمفارقة فقد حرضت عليه الأقلام المأجورة، ودوما وفق خطاب اتهام الخصوم السياسيين بـ"العمالة". فيما عمالة الصحافة للمنظومة، منزّهة عن نقد اللبنانيين!
وصرختنا إن جاءت عفوية في لحظة اشمئزاز ورفض لوضع مأساوي لا يليق بحرية الصحافة ونضالاتها، لكنها نابعة من حرقة قلب لأننا "بدنا نفوت عالنقابة"، فهذا "حقنا" ولأننا نريد تحرير النقابة والصحافة في لبنان، من براثن السياسيين الذين حاكوا لنا زوايا جهنم التي فيها نعيش. ولأنه "يسقط نهج السلطة"، وتسقط تبعية الصحافيين للسلطة، على حساب استقلال الوطن وحريته واستقلاله!
دور وطني مغيّب
وفي أوج الانهيار اللبناني وتعاظم الفساد والاحتلالات فيه، يترحم اللبنانيون على قامات صحافية جريئة وقفت سدا منيعا بوجه الفساد السياسي والاحتلالات والنظام الأمني القمعي الذي يتعاظم دوره اليوم مع إحكام حزب الله قبضته على المحكمة العسكرية.
والصحافة اللبنانية إذ ساهمت عبر التاريخ في بث روح الثورة، ها هي اليوم بغالبيتها خانعة، بعدما طوعتها المنظومة، وكم هو لبنان بحاجة اليوم لنقيب محررين يعيد للنقابة هيبتها، كنقيب الصحافة اللبنانية الحرة رياض طه الذي اغتيل قتلاً بالرصاص، رداً على افتتاحيته التي تقول "إن قافلة الوعي والتقدم تنطلق بسرعة فإياك وأن تتعرض لها لأنها ستجتاح كل من يقف دونها. ليتك تقرأ... لتدري ان المصارعين من رجال الأفكار والمبادىء لا يوهن عزائمهم إرهاب أو اضطهاد ولا يخيفهم سلاح، لأنهم لا يخشون الموت... ولكنك لا تقرأ ولا تدري...".
وها هي قافلة الوعي انطلقت وسقط جدار الخوف في انتخابات نقابة المحررين، والتعويل يبقى على وحدة الصحافيين المستقلين ضد المنظومة وأركانها، ليكونوا رأس حربة في إرساء دور وطني بغية استقلالية "السلطة الرابعة"، كي لا تكون شريكة في عملية القتل الممنهج الذي يتعرض له اللبنانيون، وكي لا "تنظّر" على المواطنين ، وتحسب نفسها بمنأى عن المحاسبة!
بالمحصلة تكمن معركتنا المقبلة كصحافيين غير منتسبين لنقابة من المفترض أنها تمثلنا في تقديم أوراق انتسابنا للنقابة، "جماعيا" كحق مشروع لنا، وكخطوة أولى في طريق الألف ميل لـ"استعادة نقابة المحررين"، والارتقاء بها حدّ تمثيلنا وتمثيل بلادنا، خير تمثيل!
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News