المحلية

السبت 01 كانون الثاني 2022 - 14:47

رأس السنة وإمعاء المعلّم

رأس السنة وإمعاء المعلّم

"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

كلّ شيءٍ ما خلا الله والصحة باطِل. الدعاء الثالث أمنيات دَيمومَة خَرجِيَّتي من فرع البنك الذي واريتُ فيه رصيدي الثَّرى. غالباً ما كنتُ أُستَقبَلُ هناك إستِقبالَ المُلوك متسلِّحاً بنصيحَة المرحوم والِدي بأنَّ الرَّجُل لا يُقاسُ بِما يملُك بل بكميَّة معارِفِه تماماً كوصيّة المعرفة قوّة على ما كتِبَ أنطون سعاده. بالطّبع كانت مقولة " معك قِرش بتِسوى قرش " تزاحم دوماً وصيَّة أبي وعلى ما يبدو فإنَّ العداوةَ بينَهُما كرٌّ وفرّ.

في التعاطي مع البنك كنت قد وضعتُ خطّة محكَمَة تعوّضُ عَن شِحّ أرصدَتي من مهنة التعليم. شبكَة من العلاقات ونَسج روابِط صداقَة مكّنَتني بالتي هيَ أحسَن مِن تَشحيم الخوازيق التي ما انفكّت تُدَقُّ في أمكنة حساسَّة فينا.

أيّام الوظيفة في التعليم كانت حمّالَة أوجُه. كان علينا نحن المعلّمين أن نوائِمَ بين الفرح والإحباط. فرح إنجاز المهمّة والإحباط من التدمير المنهجي لمعنوياتنا. معاش موَطَّن تتولّى أنت عبر ضَرب صحبَة مدير فرع المصرف التّخفيف من وقعِ عدم كفاية راتِبِك. أنا زمطتُ زَميطَة مِن تدهور معنويات المعلّمين في هذا الزّمان. بالرغم من ذلك كان عليّ وقتذاك أن أتنقّل يوميّاً بين الجامعة ومدرستين لأتمكَّنَ بالكاد من سَدّ حاجات عائِلَتي.

الوظيفة بشكل عام أسوأ أنواع سرطانات النظام الرأسمالي. مع تمتّع ربّ عملِك بأمانَتِك كموظّف ينتهي بك الأمر دائماً إلى أمرَين. أنت تصدِّق أنك لا يمكن أن تنجح خارج سجنك الصّغير وهو أي " الرَبّ " المستلذّ بقناعتك هذه لا ينفك يجد الفرص ليؤكد لك أنك على حق أي أنك خارج قفصِك لا تساوي شيئاً.

باختصار وبعد تجربة ثلاثين سنة من الوظيفة تكتشف انها قاتلَة للمعنويات قبل أن تكون قاتلة حريَّة. إنها بكل بساطة " فورمول " العقل وفاليوم ألف ميليغرام لتسكين حسّ المبادرة والإبداع في كيانِك.

كلّما تمرّست في الحياة الخشبية التي يفرضها عليك التّعليم كلّما شعرت بأن قدرتك على تجربة شيئ جديد في حياتِك شبه معدومة. اكتشفت متأخّراً أنَّ التّعليم يجسّد أسوأ ما شخصيّة الإنسان وهو عدم القدرة على إجتراح الأفعال. من لا يستطيع يعلّم. لا أقصد التعرّض لأحد من زملائي بقدر ما أسجّل خبرة عمر رافقتني على مدى عشرات السنوات. زِد على ذلك أنّك تُحرَم حتى من لفتات الوفاء من تلامذتك في ما عدا القلة منهم.

عندما قررت منذ اثنَي عشرة سنة توقيع ورقة الطلاق مع رسالتي هذه طالعتني تعليقات من الأحبة الذين سجّلوا بعض نجاحاتي في اهتماماتي الجديدة أبرزها: تهانينا. كنّا نظنّ أنك ستنهي حياتك معلّماً.

أراقب ما انتهت إليه رسالة التّعليم في لبنان اليوم. رسالة هي الأرقى تحوّل القيمون على مزاولتها إلى مطعونين في كراماتِهم في دولة لم تَفِهِمْ حقَّهم في حياة كريمة. هؤلاء الرسل لا يريدون أن يقوم أحدٌ للمعلّم ليَفِّهِ التَّبجيلَ ولا أن يُقالَ شِعراً أن المعلّم كاد أن يَكونَ رسولاً.

حرام، إستاذ مدرسِة. أحقَر تَوصيف لأرقى مهمة إنسانيَّة. المعلّم الذي يجوع لا يمكن أن يُطعِمَ الأجيال شيئاً. بعد أن كنّا مدرسة العرب وجامعته صرنا متسوّلين لبطاقات تمويليَّة الكثير من المعلّمين يحلمون بالفوز بها. معلّم يحمل خبرة ربع قرن راتبه لا يوازي مئة دولار. دولتنا ملهيَّة باللامركزيَّة الإداريَّة والماليَّة الموسَّعَة وبصراع ديوك الطّائِف فيما المعلّمون لا يستطيعون شراء كيلو لحمة وصدرَي دجاج لإطعام عيالِهِم. نقابتهم عاجزة عن تنظيم انتخابات. مدارسهم تعيش من قلَّة الموت. تلامذة تائهون بين الحضوري والأون لاين. ثورة المعلّم يجب أن تكون باكورة الإنتفاض على هذا الواقِع. هم قادة التغيير إذا أرادوا. عصيان تربوي ومقاطعة هذه الرسالة الرثّة أوّل الطريق!

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة