"حضرات السادة المسافرين، هذا هو النداء الأخير قبل إقلاع الطائرة المتجهة إلى طهران." بهذا التسجيل الصوتي في مطار روما، تبدأ أولى حلقات بودكاست (كورا)، التي أعدتها الصحافية الإيطالية تشيتشيليا سالا أثناء رحلتها الأخيرة إلى إيران قبل أن تعتقلها السلطات الإيرانية في 19 كانون الأول، وتبقى خلف القضبان طيلة 3 أسابيع.
تقول سالا إنها حصلت على تأشيرة صحافة لدخول إيران بعد انتخاب الرئيس مسعود بزشكيان والسماح لممثلي بعض وسائل الإعلام الدولية بالسفر إلى الجمهورية الإسلامية، وهو أمر كان صعبًا خلال السنتين الماضيتين.
كانت سالا (29 عامًا) تأمل بلقاء أصدقاء وأشخاص تعرفت عليهم هناك في رحلة إلى إيران قبل عامين، ونقل قصص عن أحوال البلاد وأهلها من مختلف الأجيال والاهتمامات.
في أولى حلقات البودكاست، التي تحمل عنوان "دردشة حول الأبوية في طهران"، تعبر سالا عن سعادتها بالعودة إلى طهران، "المنطقة التي اشتقت لها وحيث يعيش أشخاص اشتقت لهم كثيرًا".
وفي عرض انطباعاتها عن البلاد، تقول: "ثلاثة أشياء تغيرت منذ رحلتي الأخيرة إلى إيران":
مئات الآلاف من النساء لا يرتدين الحجاب ولا يعرن أي اهتمام إذا التقط شخص أجنبي صورًا لهن. لكن هناك كاميرات رقمية مثبتة في مناطق حيوية تصور كل شيء وتبعث بإشارات خاصة للشرطة بشأن النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب.
طهران تعرضت لقصف إسرائيلي لأول مرة (26 تشرين الأول 2024)، وفي نفس الفترة نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدة فيديوهات يوجه فيها رسالة مباشرة إلى الإيرانيين مفادها أن النظام الإيراني سيسقط قريبًا وبوتيرة أسرع مما يتصور البعض.
يتولى منصب الرئاسة أول رئيس إصلاحي خلال الـ20 سنة الأخيرة، وهو مسعود بزشكيان الذي انتُخب في أواخر تموز 2024.
قامت سالا بجولة في أحياء طهران للقاء أصدقاء وأشخاص من جيلها، في سن العشرينيات والثلاثينات لكي يتحدثوا عن بلدهم. ولاحظت أن من تقل أعمارهم عن 35 عامًا يشكلون حوالي 70% من السكان البالغ عددهم حوالي 90 مليون نسمة.
اختارت سالا قصة شابة اسمها ديبا، 21 عامًا، شعرها قصير مصبوغ باللون الأحمر. تدرس الاقتصاد وتشتغل نادلة، وتعشق موسيقى الجاز.
للحديث عن الأوضاع في إيران، تردد ديبا مقطعًا من أغنية للأميركية لانا ديل راي: "الأمل شيء خطير بالنسبة لامرأة مثلي". وتواصل الاقتباس من نفس الأغنية "لا تسأل إن كنت سعيدة، فأنت تعلم أنني لست كذلك".
تقول ديبا إنها غادرت بيت أهلها، وهي في ربيعها الـ19، وكان ذلك عام 2022، تزامنًا مع اندلاع موجة الاحتجاجات على وفاة الشابة مهسا أميني بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق في طهران.
لم يحبذ والداها الفكرة. بدأت ديبا حياة جديدة. أصبحت تنام في سكن جامعي وبدأت التدخين. ترتدي الحجاب أثناء العمل وتزيله خارج ساعات العمل. ترفض ديبا التعامل معها على أساس الجندر، وترفض تقسيم الأدوار في المجتمع بناء على ذلك.
تحكي عن هشاشة وضعها الاقتصادي ومدى تأثرها بموجة التضخم والانخفاض المستمر للريال الإيراني مقابل الدولار الأميركي. والحل الوحيد أمام ديبا لتحقيق ذاتها واستقلاليتها عن عائلتها هو مزيد من العمل، لهذا تعمل أحيانًا 14 ساعة في اليوم.
تعرضت ديبا للطرد من العمل ثلاث مرات لأسباب غير مهنية وتلقت عروضًا للزواج شرط التخلي عن أسلوبها الجديد في الحياة، لكنها تفضل إثبات ذاتها والتمسك بحريتها واستقلاليتها.
تقول سالا عن محدثتها ديبا إنها نموذج لمئات آلاف الإيرانيات اللواتي عليهن ادخار بعض المال لدفع الغرامات التي تفرضها الحكومة على من لا يلتزمن بارتداء الحجاب. ومن لا يدفعن الغرامة فهن مهددات بالسجن، وفق قانون "الحجاب والعفة" الذي تمت المصادقة عليه أثناء فترة حكم الرئيس إبراهيم رئيسي.
الرئيس الحالي بزشكيان عبّر عن عدم تحمسه لذلك القانون، وقال أثناء حملته الانتخابية إنه لا يمكن للحكومة أن تفرض بعض الأمور على النساء. لكن "مجلس خبراء القيادة" وافق على العقوبات الواردة في ذلك القانون.
لم يبق أمام الرئيس بزشكيان سوى التوقيع عليه، قبل أن يتم تجميد العمل بمقتضياته في سياق التطورات المتسارعة في المنطقة وحرص القيادة الإيرانية على تفادي مزيد من الاحتجاجات.
من أجواء الاحتجاجات والتطلع للحريات، تعود سالا بمتابعيها لأواخر السبعينيات من القرن الماضي في حلقة بعنوان "ألبوم صور عائلة محور المقاومة"، وهي في ضيافة متحدث تقول عنه إنه كان من أوائل الضباط الكبار في الحرس الثوري الإيراني وساهم طيلة 45 عامًا في بناء "محور المقاومة".
أمضت سالا ساعة في بيت مضيفها حسين كناني وتصفحت معه "ألبوم صور عائلة المقاومة" الذي يعكس بعض ملامح تدخل إيران في الشرق الأوسط من خلال جماعات موالية لها (حزب الله في لبنان، حماس في غزة، الحوثيون في اليمن) ونظام الرئيس السوري بشار الأسد.
يتضمن الألبوم صورًا لكناني مع جنرالات اغتالتهم إسرائيل في سوريا في فترات مختلفة، بعضهم لقوا حتفهم في قصف إسرائيلي لمقر القنصلية الإيرانية في دمشق في نيسان 2024.
وفي صور أخرى تعود لثمانينيات القرن الماضي، يظهر كناني قرب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله ومع حسين أمير عبد اللهيان الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للشؤون الخارجية ولقى مصرعه إلى جانب الرئيس إبراهيم رئيسي في تحطم مروحيتهم في أيار 2024.
وتعليقا على صور مع الجنرال قاسم سليماني، يقول المتحدث إنه تعرف عليه قبل 44 عامًا، وإنه هو من أشرف على سليماني في بداية مشواره قبل أن يصبح لاحقًا أشهر جنرال إيراني في المنطقة.
اغتيل سليماني مطلع عام 2020 بطائرة مسيرة أميركية ليبدأ محور المقاومة في التلاشي قبل أن تتسرع وتيرة انهياره منذ 7 تشرين الأول 2023.
تقول سالا إن كل أصدقاء كناني توفوا، وتواصل الحديث عن "محور المقاومة" بالتركيز على سوريا التي وصفتها "الحلقة الذهبية". وتختم بالقول: إن محور المقاومة انتهى بسقوط النظام السوري على غرار تفكك المعسكر الشيوعي بسقوط جدار برلين.
من المقاومة وألغامها، تعود سالا بمتابعيها إلى أجواء "ثورة" أخرى، ثورة بالفن والابتكار. وتفتح الميكروفون لزينب موسوي، وهي كوميدية مشهورة تمزج شخصيات من الأساطير الفارسية القديمة بقفشات ذات إيحاءات جنسية لا يفهمها إلا أهل البلد.
في حلقة بعنوان "كوميديا طهران"، تختصر سالا قصة زينب موسوي بالقول إنها "مضحكة جدًا لدرجة أنهم أوقفوا حسابها على إنستغرام".
على غرار زينب موسوي بدأ نحو مليوني شخص في ممارسة أنشطة على المنصات الرقمية لكن ذلك تعثر عندما اندلعت الاحتجاجات في تشرين الثاني 2022 وقررت السلطات اعتبار شركة ميتا مؤسسة معادية، وتم حظر المنصات التابعة لها وهي فيسبوك وإنستغرام وواتسآب.
كانت تلك أحدث محطة في التطورات التي شهدتها البلاد خلال الـ10 سنوات الماضية، إذ بدأ الاقتصاد الرقمي في الانتعاش بالاعتماد على تطبيقات تتصل بالخدمات والنقل والمعاملات المالية والتجارية.
المتظاهرون في عام 2022 هم من الجيل الذي ركب الموجة الرقمية وأطلقوا أنشطة موازية حققت لهم الاستقلالية الاقتصادية عن المؤسسات التابعة للدولة أو المخابرات أو المؤسسة الدينية.
الناشطون على هذه المنصات يستعملون تطبيقات خاصة لتفادي رقابة الحكومة على أنشطتهم وهكذا لم يكن أمام الحكومة سوى معاقبة الجميع من خلال التحكم في الإنترنت سواء بتعطيله أو حجبه أحيانًا وبحظر بعض التطبيقات الإلكترونية من قبيل VPN.
وأحيانًا تمارس الحكومة ضغوطها عبر أدوات اقتصادية من خلال تشديد المعاملات البنكية أو الضغط على الشركات الحكومية الكبرى لكي لا تتعامل مع تجار التجزئة على المنصات الرقمية.
اعتقلت السلطات زينب في بيت والدها في مدينة قم، وقضت 28 يومًا قيد الاعتقال الاحتياطي في زنزانة انفرادية في واحد من أسوأ السجون في البلاد قبل أن يُفرج عنها وتتواصل محاكمتها وهي مطلقة السراح.
تقول زينب إن روح الفكاهة لم تفارقها حتى وهي في السجن، حيث كانت ترد على أسئلة المحققين بطريقة مرحة.
بينما كانت سالا في الفندق تستعد للذهاب إلى مطار طهران لتعود إلى إيطاليا، اقتحم أفراد من الشرطة غرفتها واقتادوها إلى سجن إيفين السيء السمعة.
في بودكاست بعنوان "أيامي في إيفين، بين التحقيقات والعزلة"، تتحدث سالا عن تلك التجربة وتقول بعد عودتها لإيطاليا، إنها قضت بعض الوقت في زنزانة انفرادية، وأثناء الاعتقال كانت تتخيل مئات المشاهد الكوميدية وهو ما أكسبها القوة على تحمل عبء السجن.
في ساعات الاعتقال الأولى ساورتها مخاوف بشأن الفترة التي ستقضيها خلف الجدران. لم تكن متفائلة ولم تكن متشائمة. بدأت تقضي الوقت في حساب الأيام والساعات باستعمال أصابعها، وتقول "لم أكن أتوقع أن يتم الإفراج عني بهذه السرعة".
وعن ظروف الاعتقال تقول إن المسألة الأكثر قسوة هي "الصمت والحبس الانفرادي"، وتستطرد "في هذا الفراغ يتلاشى النوم ولا مكان للحلم وتصبح الساعات بحجم الأسابيع، والكتاب هو أكثر شيء كان ينقصني في السجن، كتاب يروي قصة شخص آخر وليس قصتي أنا، قصة يمكن أن أنغمس فيها".
على الرغم من كل ما مرّت به، فإن سالا تؤكد أن التجربة لم تكسر عزيمتها. وقالت إن عودتها إلى إيطاليا كانت بداية جديدة، وأضافت: "عدت إلى روما مع آمال جديدة، ومع الكثير من الأفكار التي ستكون محور عملها في المستقبل".
تختتم تشيتشيليا سالا حلقتها بتوجيه الشكر إلى كل من دعمها في محنتها، معبرة عن أملها في أن تستمر في تقديم تقارير صحافية تعكس المعاناة والتحديات التي يواجهها المواطنون في الدول التي تعيش ظروفًا صعبة.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News