ما جرى في زحلة لم يكن مجرّد استحقاق بلدي، بل رسالة سياسية واضحة المعالم وجّهتها “القوات” مباشرة إلى رئيس الجمهورية الجديد، العماد جوزاف عون، مفادها أن طريق انتخابات 2026 النيابية تمرّ عبر معراب، لا عبر بعبدا. واللافت أن رمزية زحلة هنا مزدوجة: فهي من جهة صندوق بريد سياسي متقدّم في قلب البيئة المسيحية، ومن جهة أخرى مؤشّر صريح على أن “القوات” ترى نفسها اللاعب الأول ليس فقط مسيحيًا، بل وطنيًا أيضًا.
رئيس “القوات”، سمير جعجع، يدرك تمامًا أن السيطرة على الشارع المسيحي توازي الإمساك بمفاصل القرار السياسي. وقد بدأت معراب ترجمة ذلك بخطوات عملية، من خلال التحضير المبكر للانتخابات النيابية، والتواصل مع الحلفاء، وتفعيل ماكينة إعلامية نشطة تضبط إيقاع الرأي العام.
لكنّ المواجهة لا تقتصر على صناديق الاقتراع فحسب، إذ تُفيد المعطيات أن “القوات اللبنانية” قد تُقدم على خطوات تصعيدية ميدانية في مواجهة العهد، الذي لم تكن في الأساس راضية عن وصول العماد جوزاف عون إلى سدّة الرئاسة، وكانت تفضّل شخصية أقرب إلى توجّهاتها السياسية. ومع تصاعد التوتر، لا يُستبعد أن تأخذ هذه المواجهة طابعًا ميدانيًا تحت عناوين مختلفة، أبرزها ملف سلاح “حزب الله”، الذي قد تستخدمه “القوات” كأداة لإحراج الرئيس عون أمام الداخل والخارج على حدّ سواء، عبر الإيحاء بأن خطواته في هذا الملف غير كافية ولا ترقى إلى طموحات الشارع المسيحي.
وتُطرح في الكواليس سيناريوهات تتحدث عن احتمال تنفيذ “القوات” لتحرّكات ميدانية منظمة قد تبلغ مستوى الانسحاب من الحكومة، إذا اقتضت الظروف، بهدف التأثير على مزاج الشارع وتحقيق مكاسب انتخابية في صناديق 2026، تمهيدًا للانقضاض على حكومات ما بعد الانتخابات.
في المقابل، يجد الرئيس جوزاف عون نفسه أمام اختبار مبكر. فإما أن يُسرع في تحصين عهده بشبكة أمان نيابية وسياسية تحول دون استهدافه، وإما أن يترك الساحة مفتوحة أمام خصوم بدأوا الهجوم من باب صناديق البلديات، وقد لا يتوقفون عندها.
الخطر يكمن في أن يتحوّل هذا العهد إلى ساحة استنزاف باكر، حيث يتكرر سيناريو العرقلة والتعطيل، لكن من سنته الأولى، لا الأخيرة كما درجت العادة. وبينما يسعى الرئيس إلى التأسيس لمرحلة حكم فاعلة، يجد نفسه أمام حزب يتمتع بشرعية شعبية ونيابية، ويُجيد إدارة الصراعات بهدوء ودهاء.
زحلة قدّمت مشهدًا تمهيديًا لصراع أوسع يُراد له أن يبدأ في البلديات ولا ينتهي قبل أبواب المجلس النيابي. وإذا كانت “القوات” قد قالت كلمتها بوضوح عبر صناديق الاقتراع، فإن على العهد أن يلتقط الرسالة بسرعة، ويبادر إلى بناء تحالفات تُحصّنه من محاولات التهميش أو الإقصاء.
المعركة بدأت، وليس من المستبعد أن تكون زحلة هي الصفحة الأولى في كتاب صراع طويل بين “رئاسة بلا حزب” و”حزب يطمح إلى الرئاسة”.