يسعى رئيس الحكومة نواف سلام إلى ترسيخ تموضع سياسي جديد، قائم على التباعد المتزايد مع حزب الله، وتكريس مسافة واضحة في العلاقة معه، عبر اعتماد مواقف حادة تجاهه. هذا التموضع، وإن بدا في ظاهره تعبيرًا عن موقف “سيادي”، إلا أنه ينطوي على أبعاد أكثر تعقيدًا، تُظهر ميلًا متعمدًا إلى تبنّي خطاب تصادمي، مقابل محاولة استمالة داعمين خارجيين – أو على الأقل لفت نظرهم – وتحديدًا من دول الخليج.
منذ توليه رئاسة الحكومة، لم يُخفِ سلام امتعاضه من تقارب الرئاسة الأولى مع حزب الله، خصوصًا في قضايا حساسة مثل ملف “حصر السلاح”. فبينما تعتمد رئاسة الجمهورية مقاربة حذرة، قائمة على الحوار واحتواء الهواجس، يميل سلام إلى خطاب تصعيدي حاد، يصل أحيانًا إلى حدّ العداء الصريح، يظهر وكأنه أسير “أزمة عقائد” حيال شريك مفترض، وينزلق في أحيان أخرى إلى تبنّي أفكار “انعزالية” تجاه الحزب، كما في تصريحه الأخير بأن “زمن تصدير الثورة الإسلامية قد انتهى”.
وهو لأمر غير مفهوم كيف لرئيس الحكومة أن يتعمّد توسيع فجوة الخلاف مع الحزب بدلًا من تقليصها؟ وكيف يعزل نفسه عن أي نقاش أو تواصل معه، بينما يتحسس في الوقت نفسه من إعطاء الحزب أهمية أكبر لرئاسة الجمهورية مقارنة برئاسة الحكومة، رغم أن الحزب لا يزال يبعث برسائل إيجابية تجاهه، كما حصل في ردّ فعل العلاقات الإعلامية على ما ردّده بعض مناصري المقاومة في المدينة الرياضية.
في هذا السياق، يتنامى الاعتقاد بأن سلام يبحث عن دور سياسي من خلال التصعيد والمواجهة مع الحزب، ومحاولة منافسة الرئاسة الأولى، حيث يرى أن الأخيرة تسلبه أدوارًا كان يُفترض أن تكون من صلب صلاحياته. وهو يسعى إلى استثمار هذا التوتر سياسيًا، تحديدًا مع بعض الدول العربية، في مقابل اعتقاده بأن رئاسة الجمهورية تذهب باتجاه استثمار علاقتها بالإدارة الأميركية. ويأمل سلام من خلال ذلك أن يخلق لنفسه موقعًا إقليميًا يمكن استخدامه كرافعة لخلق توازن سياسي داخلي.
خلال الفترة الماضية، عبّر سلام مرارًا عن امتعاضه من سلوكيات الرئاسة الأولى، خاصة في ما يتعلّق بمقاربة ملف السلاح، حيث يسود تباين واضح بين رؤيتي الرئاستين. ففي حين تعتمد الرئاسة الأولى نهج التهدئة والمهادنة وإبداء الاستعداد للتعاون، يذهب سلام نحو مواجهة مفتوحة. هذا الأداء يُقرأ كنوع من الاستقلالية في القرار، ورفضًا منه لأي تأييد يبديه تجاه الحوار المحتمل، بل كقطع للطريق على أي احتمال لمشاركته في “صفقة تسووية” واردة دومًا.
ويبدو أن سلام، من خلال هذا السلوك، يسعى إلى فتح قنوات خارجية، خصوصًا مع بعض الدول الخليجية، التي ترى أن العلاقة بين الدولة اللبنانية وحزب الله يجب أن تتسم بقدر من الصدام أو الحدية، في سياق استكمال نتائج الحرب وإفرازاتها. وهنا يقدّم سلام نفسه كصاحب خطاب مختلف عن خطاب الرئاسة، ويأمل أن ينال من خلاله الودّ والدعم، بل يقدّم أوراق اعتماد، خاصة أنه – أو معاونيه – يعتقد أن فترة ولايته قد لا تمتد إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة في 2026.
بناءً على هذا التوجّه، يُظهر سلام استعداده لتبنّي خطاب أكثر تشددًا، بل يتقدّم خطوة إضافية، فيقدّم نفسه كبديل قوي وغير مهادن للحزب، على خلاف نهج الرئاسة. وقد يكون هذا الخطاب وسيلة لتكريس التمايز عن الرئاسة، ونيل دعم من يعتبر أنهم يمثّلون “الفريق العربي المؤثر” داخل لبنان، في مقابل ما يعتبره تمثيلًا غربيًا للرئاسة. ولا يخفى أنه يختار إطلاق مواقفه الحادة من على منابر إعلامية عربية (غالبًا خليجية)، ما يعكس انطباعًا مباشرًا بأنه يتقصّد التوجّه إلى جمهور خارجي أكثر من كونه داخليًا.
لم تعد العلاقة بين سلام ورئاسة الجمهورية مستقرة، حتى في ملفات لا علاقة لها مباشرة بحزب الله. إذ يسعى سلام باستمرار إلى خلق مساحة له، في ظل ما يعتبره “تسللًا سياسيًا” يمارسه الرئيس جوزاف عون، المدعوم داخليًا وخارجيًا. وقد أظهرت تجارب سابقة أن سلام لا يشكّل نِدًا لعون، الذي يتصرف بوصفه صاحب اليد العليا في السلطة. بل يمكن القول إن عون هو أول رئيس منذ اتفاق الطائف – أو على الأقل منذ عهد إميل لحود – يمنح موقع الرئاسة هذا الحضور القوي، في مقابل دور باهت نسبيًا لرئاسة الحكومة.
وقد لا يكون سلام قد نسي بعد تجربة التعيينات الأمنية، وتلك المتعلقة بحاكم مصرف لبنان، حيث رجحت الكفّة بوضوح لصالح رئاسة الجمهورية. وها هي الأخيرة تتجه نحو ملفات التعيينات القضائية، فالدبلوماسية، ولاحقًا الإدارية، ومن الواضح أنها ستعتمد النهج نفسه، مدعومة من قوى داخلية. وهذا ما يعتبره سلام انتقاصًا من صلاحياته، ويعزز صورته كـ”حاكم ضعيف”، في مواجهة رئيس جمهورية قوي ومبادر.