خاض سلام تجارب عدة في هذا الإطار، كان أبرزها محاولاته التنافس مع الرئيس في مسائل تتعلق بإدارة الشؤون الداخلية للدولة وفي شأن التعيينات وموضوع مكان انعقاد جلسات مجلس الوزراء، إلا أنه خسر تلك المواجهات تباعاً، أمام اندفاعة عون الذي بدا وكأنه يعيش ذروة حضور سياسي مدعوم من جهات متعددة، تكاد تلتهم من الرصيد السياسي لسلام نفسه.
ومع بداية العهد الرئاسي وبروز هذا النمط من الأداء، فضلاً عن وقوف كتل نيابية واسعة إلى جانب رئيس الجمهورية، شعر سلام بأنه قد يُستفرد به، أو أنه مهدد بأن يتحول فعلياً إلى موقع معزول أو لا قيمة سياسية له خلال المرحلة المقبلة. لذا، بدأ فريقه بالبحث عن “بوابة” تؤمّن له حضوراً سياسياً، وتحصّنه بتحالف داخلي يدعمه، خصوصاً في ظل مظاهر الضعف التي أخذت تظهر عليه تدريجياً، سواء على المستوى الشخصي أو في شأن المواقف السياسية ـ إذ بدا في أحيان كثيرة وكأنه يتحرك وفق ردّات فعل أو دعاية سياسية آنية لا وفق استراتيجية واضحة ـ أو على مستوى المواجهة السياسية التي افتقرت لأدوات فعالة، وخصوصاً برلمانية، لم تكن متوفرة له، مقارنة بما نجح الرئيس في تكوينه، رغم حصول سلام على عدد مرموق من الأصوات خلال استشارات تكليفه. غير أن تلك الأرقام لم تتحول يوماً إلى نواة سياسية صلبة تسانده، كونها فُرضت فرضاً ولم تنطلق من قاعدة دعم حقيقي، بعكس ما حصل مع عون.
في هذا السياق، كانت القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع تراقب المشهد. وهي، وإن كانت تتشارك في العموم مع جوزاف عون في المفاهيم السياسية، إلا أنها كانت ترى فيه خصماً ندّياً قوياً غير مألوف منذ زمن ميشال عون، لا سيما داخل الشارع المسيحي. كما لاحظت أن عون يتقدّم عليها في الحضور والمواقف، من دون أن يُبدي رغبة حقيقية في التنسيق معها. ومع إدراكها أن أي شخصية مسيحية قوية تمثل “شرعية الدولة” قد تتحول إلى مشروع زعامة ينافسها على رصيدها، اختارت القوات منذ الأيام الأولى للعهد أن تزاحم عون على قضايا عدة، بدءاً من ملف تأليف الحكومة، ولاحقاً عبر انتقاده علناً في مواقف مرتبطة بملف سلاح حزب الله.
وقد أثار امتعاض القوات بشكل خاص، حجم التنسيق بين رئاسة الجمهورية والرئاسة الثانية وفيما بعد مع حزب الله عبر تدشين بوابة الحوار من خلال تكليف شخصيات ولجان، إضافة إلى الانفتاح الواضح على وليد جنبلاط، مقابل تهميش لها كقوة مسيحية رئيسية. فحتى بعد محاولات التقارب، بقيت صورة سمير جعجع، المتأثرة بموروثاته السياسية، تطغى على العلاقة، لا سيما حين اضطر إلى النزول من معراب إلى اليرزة لعقد لقاء مع جوزاف عون قبيل انتخابه رئيساً، بعدما كان قد رفع سابقاً شعار “على عون أن يزورني”.
تكتيكياً، رأت القوات في جوزاف عون خصماً قوياً يصعب التأثير عليه، في المقابل وجدت في نواف سلام “باباً” يمكن التعاون معه، كونه يحتاج إلى دعم نيابي وشعبي، وببساطة، لأنه في نظر جعجع شخصية يمكن التأثير عليها واستثمارها سياسياً. لذلك صبّت القوات جزءاً كبيراً من دعمها باتجاه السراي الحكومي، لا القصر الجمهوري، رغم أنها أبقت على شعرة معاوية مع بعبدا، ولم تتردد في تزكية سلام سياسياً في أكثر من مناسبة كنوع من توجيه الرسائل المدروسة صوب بعبدا. ويظهر ذلك في تصريح جعجع الأخير، حين حاول تمييز العلاقة بين معراب والسراي عن علاقتها بالقصر، قائلاً: “بالنسبة لي، من هو الأقرب؟ أعتقد كلاهما، الرئيس عون والرئيس سلام، مع أن الرئيس سلام يعبّر عن مواقفه بوضوح أكبر”.
وفي السياق نفسه، بعث جعجع برسائل واضحة حول نواياه السياسية المتعلقة برئاسة الجمهورية. فحين لم يُدرج سلام بند “حصر السلاح” على جدول أعمال مجلس الوزراء، دافع عنه جعجع بالتذكير بأنه “أدرجه بالفعل، وهو ينسّق مع رئيس الجمهورية بشأنه”، لكنه عاد وأشار إلى أن “الرئيس يقول إنه بحاجة لبعض الوقت لترتيب الأمور بالشكل الأنسب. لا بأس، لكن ما لا نريده هو أن يضيع هذا الوقت من دون نتائج”.
هذه التلميحات تعكس بوضوح مقاربة القوات لمسألة رئاسة الجمهورية، والتي تريدها أن تسير وفق منطقها السياسي وأدبياتها، لا وفق ما يُعرف بأدبيات قصر بعبدا. ولا يُخفى أن وزير الخارجية يوسف رجي، المحسوب على معراب، يتولى التعبير الصريح عن هذه السياسات والممارسات، وقد وصل به الحماس مؤخراً إلى محاولة خلق اشتباك مع وزراء “الثنائي الشيعي” وافتتاح أزمة سياسية مع حزب الله يتم إغراق الحكومة بها، وهو ما وقف بوجهه رئيس الجمهورية شخصياً.
ويبدو من التسريبات المختلفة أن القصر منزعج من تدخلات معراب المتكررة في عدد من الملفات السياسية وفي عمل الحكومة ومحاولاتها فرض تأثيرها عليه. في المقابل، تؤكد المعطيات وجود تنسيق متقدم بين معراب ونواف سلام داخل مجلس الوزراء، خصوصاً في ملفات تتقاطع مع صلاحيات الرئاسة، كقضية التعيينات، لا سيما الدبلوماسية منها، حيث تميل معراب إلى دعم خيارات سلام على حساب خيارات عون.