عادت قضية ترحيل اللاجئين السوريين المقيمين في دول أوروبا الى الواجهة من جديد، بعد فشل وزارة الداخلية النمساوية في تنفيذ أول عملية ترحيل إلى سوريا منذ سنوات. حيث تسعى النمسا إلى استئناف عمليات الترحيل إلى سوريا، منذ تغيّر السلطة في دمشق وسقوط نظام الأسد.
وأفادت الوزارة في بيان لوكالة الأنباء النمساوية بأن الشخص المعني لا يزال قيد الحجز الاحتياطي وسيتم تنفيذ الترحيل بمجرد أن يصبح ممكناً. وأضافت أن الترحيل لم يكتمل نتيجة عدم إمكانية تسيير رحلات جوية إلى سوريا بسبب إغلاق المجال الجوي في دول الشرق الأوسط.
ومنذ مطلع العام الجاري، وجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام واقع جديد ومصير مبهم في تواجدهم في أوروبا. وتزايد قلقهم بشكل خاص بعد أن قامت عدة دول أوروبية، بتجميد دراسة الطلبات الجديدة للجوء السوريين. تزامناً مع إعلان دول الإتحاد الأوروبي عن خطط واضحة لترحيل السوريين.
حيث سارعت 12 دولة أوروبية بينها ألمانيا والنمسا وبلجيكا إلى تعليق طلبات اللجوء الخاصة بالسوريين. كما تصاعدت دعوات العديد من السياسيين الأوروبيين لإعادة السوريين إلى بلادهم. في حين ذهبت الحكومة النمساوية لأبعد من ذلك، من خلال عرضها مبلغ 1000 يورو كـ"مكافأة عودة" لكل لاجئ يرغب في العودة طوعاً إلى سوريا.
كما فتحت السلطات الألمانية ملفات أكثر من 2000 لاجئ بينهم مئات السوريين، تمهيداً لسحب إقاماتهم، بعدما تبين قيامهم بزيارات إلى بلدانهم خلال الأشهر الماضية. على الرغم من أنه وفقاً للقواعد المعمول بها في ألمانيا، تطبق بعض الاستثناءات إذا سافر اللاجئ إلى وطنه لـ "ضرورة أخلاقية"، مثل حالة مرض خطير لأحد أفراد الأسرة أو وفاته.
وكانت وزارة الداخلية البريطانية قد أوقفت، منذ مطلع العام، جميع المقابلات والقرارات الخاصة بطلبات اللجوء للسوريين، بما في ذلك طلبات الإقامة الدائمة المقدّمة من لاجئين سبق أن حصلوا على حق اللجوء، مبررة ذلك بالحاجة إلى "تقييم الوضع الراهن في سوريا".
وبحسب ما ذكرته صحيفة "الإندبندنت"، تُظهر البيانات الرسمية الصادرة حتى نهاية آذار أن أكثر من 7,000 طالب لجوء سوري لا يزالون في حالة من عدم اليقين، وسط غياب تقديرات دقيقة لأعداد من ينتظرون قرارات التوطين الدائم.
إلا أنه ورغم سقوط النظام، لا تزال سوريا تعاني من دمار شامل في معظم مدنها الكبرى، حيث تحتاج البلاد إلى نحو 400 مليار دولار لإعادة الإعمار. كما أن 70% من السوريين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، بينما يعيش 90% منهم تحت خط الفقر.
وتشهد المدن السورية الرئيسية مثل دمشق وحلب أزمة سكن حادة، حيث ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل كبير. ففي دمشق، قفز إيجار المنزل من 100 دولار شهرياً إلى أكثر من 400 دولار، بينما لا يتجاوز الراتب الشهري للسوريين في العاصمة 140 دولاراً. هذه الفجوة الكبيرة بين الدخل وتكاليف المعيشة تشكل عائقاً رئيسياً أمام عودة اللاجئين. ناهيك عن الصعوبات في استعادة الملكيات بسبب فقدان الوثائق، أو ازدواجية المرجعيات الإدارية.
وتشكل العمليات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة في جنوب سوريا ووسطها مصدر قلق إضافي للاجئين الذين يفكرون في العودة. كما أن الحالة الأمنية المضطربة في البلاد، لا تشجع على العودة، بسبب الملاحقات الأمنية وانتشار الجماعات المتشددة دينياً الخارجة عن سيطرة الدولة والتفجيرات الإرهابية المتكررة التي تقوم بها، كالتفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس مؤخراً في منطقة الدويلعة في العاصمة السورية دمشق، والذي أدى إلى مقتل 22 شخصًا وجرح 63 آخرين،
من جهتها، تحذر المنظمات الحقوقية من أن بعض الحكومات الأوروبية تستغل التغيير السياسي في سوريا لدفع أجندات سياسية داخلية، خاصة مع صعود الأحزاب اليمينية المعادية للهجرة. بمعنى آخر، إستغلال أزمة اللاجئين لتحقيق مكاسب إنتخابية.
وفي السياق، تقول إيف غيدي من منظمة العفو الدولية: "ينبغي للبلدان الأوروبية أن تتجنب إغراق اللاجئين السوريين في أوضاع تتسم بمزيد من عدم اليقين، وعدم التضحية بسلامتهم لصالح السياسات المتعصبة".
كما عبّر لوكاس غاهلايتنر-غيرتس من منظمة "منسقية اللجوء" عن تحفظه فيما يخص عودة السوريين إلى وطنهم، مشيراً إلى أن الوضع في سوريا لا يزال ضبابياً، ولا أحد يعلم كيف ستتعامل السلطات هناك مع الشخص فور وصوله، أو ما إذا كان سيتعرض للاعتقال أو حتى للتعذيب.
وعلى الرغم من المعارضات الحقوقية لعملية الترحيل، فإن بيانات "يوروستات" تُشير إلى أن عشرات الأشخاص تم ترحيلهم بالفعل إلى سوريا من دول مثل رومانيا والمجر خلال الأشهر الأخيرة. فيما يؤكد الخبراء على أن الإجراءات التي تتخذها الدول الأوربية وخاصة ألمانيا تجاه اللاجئين السوريين وتعديلاتها على قوانين الهجرة، بالتوازي مع النشاط السياسي والدبلوماسي للتواصل مع الإدارة السورية الجديدة، هي مؤشرات واضحة على توجه أوروبي شامل للتخلص من اللاجئين السوريين.
كما تُشير التقارير إلى أن الاتحاد الأوروبي اتبع سياسة متحفظة في تعامله مع الإدارة السورية الجديدة، حيث قام برفع العقوبات جزئياً فقط، مع الإبقاء على قيود مهمة خاصة في المجال المالي والبنكي. وبحسب الخبراء، فإن هذا النهج يعكس عدم قناعة أوروبية كاملة بجدية الإصلاحات السياسية والأمنية في سوريا، خاصة في ظل استمرار تصنيف هيئة تحرير الشام (الحاكمة حالياً) كمنظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي.
ويُشير الخبراء الى أن التناقض الصارخ يبرز بين مطالب أوروبا الرسمية بالإصلاح السياسي وسياساتها الفعلية. فبينما ترفع شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان، تُعطى الأولوية العملية لملف اللاجئين على حساب الإصلاح الحقيقي. مما يضع مصداقية الموقف الأوروبي موضع شك. ناهيك عن دعم الإتحاد الأوروبي للكيان الإسرائيلي، الذي لا يزال يُغرق المنطقة في الصراعات المسلحة التي لا تنتهي ويزعزع الاستقرار في كامل الشرق الأوسط.
في المقابل، يبدو أن الإدارة السورية الجديدة تقع في فخ التنازلات المتتالية دون ضمانات حقيقية بتحقيق مصالح الشعب السوري. فالقبول بالشروط الأوروبية قد يعزز شرعية النظام دولياً بشكل مؤقت، لكنه قد يتحول إلى كابوس سياسي مع عودة آلاف اللاجئين إلى أوضاع معيشية وأمنية غير مستقرة، خصوصاً في ظل هشاشة الوضع الأمني.
في المحصلة، يجب على المجتمع الدولي تبني نهج متوازن يحترم حق اللاجئين في الاختيار الحر بين العودة أو البقاء، مع ضمان توفير الظروف الآمنة والكريمة لأي خيار. فكما قال أحد اللاجئين السوريين في ألمانيا: "حياتي أفضل هنا، لقد أصبحت من سكان برلين". بينما يتطلع آخرون إلى المشاركة في إعادة إعمار وطنهم.