لم تتجاوز درجات الحرارة في محافظة الأنبار العراقية 15 درجة ليلة الأربعاء 8 كانون الثاني 2020، لكن المشهد تغير فجأة مع الانفجارات العنيفة التي أعقبت سقوط 10 صواريخ باليستية إيرانية على قاعدة عين الأسد الجوية، التي تستضيف قوات أميركية.
جاء الهجوم ردًا على اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بغارة أميركية باستخدام طائرة مسيرة في العراق قبل أيام، ما أشعل فتيل تصعيد عالمي وقلق دولي عميق.
في الوقت الذي حبس فيه العالم أنفاسه تحسبًا لحرب شاملة، بدت الرواية الأميركية مخففة من حجم التوتر، معلنة أن القاعدة لم تسجل أي قتلى بين صفوف القوات وأن الإصابات كانت محدودة، بينما وصف الرئيس دونالد ترامب في خطاب هادئ الضربة الإيرانية بأنها رد فعل طبيعي مضيفًا: "بدأنا بضربهم فعليًا، فعليهم أن يفعلوا شيئًا".
في المقابل، اعتبر المرشد الإيراني علي خامنئي الضربة "صفعة على وجه أميركا"، فيما أعلن الإيرانيون أن هجومهم الصاروخي قد أسفر عن مقتل 80 جنديًا أميركيًا، وهو ما لم يؤكدته واشنطن، ليبدو أن الجولة انتهت دون تصعيد إضافي.
ما حدث خلف الكواليس، وفقًا لمراقبين، لم يكن مجرد تصعيد عشوائي، بل مسرحية محكمة الاتقان، حيث أبلغت إيران بغداد مسبقًا بنيتها الهجوم، وتمكنت القوات الأميركية من إخلاء الملاجئ قبل دقائق من الضربة، ما حد من الخسائر. وهكذا، أظهر الطرفان قوتهما مع تجنب الحرب المفتوحة.
تأتي هذه المواجهة في إطار استراتيجية عسكرية وسياسية معقدة تعتمد على "الدبلوماسية الخشنة"، حيث تكون الحرب وسيلة للتفاوض والضغط السياسي، وليست فقط وسيلة للتدمير، وفقًا لما أوضحه عالم الاستراتيجية توماس شيلينغ في كتابه "استراتيجية الصراع".
تاريخياً، استخدمت القوى العظمى هذا النوع من العمليات العسكرية المدروسة لتوجيه رسائل سياسية محددة من دون دفع ثمن الحرب الشاملة، كما حدث في أزمة صواريخ كوبا 1962، وعمليات استعراضية أخرى مثل الضربة الأميركية لقاعدة الشعيرات الجوية في سوريا 2017.
وفي زمننا الحالي، برزت هذه الاستراتيجيات في المشهد الأميركي الإيراني، حيث تسعى كل من واشنطن وطهران إلى ضبط التصعيد عبر إرسال رسائل ردع متبادلة، تجنبا لوقوع صدامات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وبهدف إدارة الصراع بحدود محسوبة.
هذا المشهد المسرحي، رغم تنسيقه الدقيق، يبقى هشًا، حيث قد يؤدي أي ارتجال أو خطأ في حسابات الأطراف إلى خروج الأمور عن السيطرة. في الوقت ذاته، يظل الجمهور الدولي والداخل الأميركي والإيراني يشاهدون عرضًا يعكس عمق التوترات، لكنه في جوهره محاولة لإدارة صراع معقد عبر أدوات القوة والدبلوماسية في آنٍ واحد.