“ليبانون ديبايت” – أنطوني سعد
في يوم لن يُمحى من ذاكرة اللبنانيين، شهدت بيروت سلسلة لقاءات حساسة جمعت بين المبعوث الأميركي توم باراك والرؤساء الثلاثة وعدد من القيادات اللبنانية، وسط أجواء مشحونة أعادت إلى الأذهان زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى لبنان في كانون الأول ١٩٧٣. يومها، اضطرت الدولة اللبنانية إلى استقبال وزير خارجية أكبر دولة في العالم في قاعدة رياق العسكرية بدلًا من مطار بيروت الدولي، نتيجة تهديدات مباشرة من منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تسيطر على محيط المطار وتصادر السيادة اللبنانية.
آنذاك، خرج كيسنجر بانطباع مفاده أن لبنان دولة فاشلة لا تستحق الحياة، ويُقال إنه أبدى امتعاضه الشديد من ضعف الدولة اللبنانية خلال لقائه بالرئيس سليمان فرنجية. وقد ظلت هذه الزيارة موضع أخذ ورد في تاريخ الحرب الأهلية، إذ اعتُبرت إشارة انطلاق للحرب التي أنهت صورة لبنان كـ”سويسرا الشرق”.
وما أشبه الأمس باليوم. فبعد خمسين عامًا ونيف، تكررت الأحداث نفسها ولكن بصيغة جديدة: باراك لم يقلها صراحة، لكنه أوصل الرسالة ذاتها. فدولة عاجزة عن نزع سلاح الميليشيات على أراضيها لا يمكن أن تبقى تحت مظلة الدعم الأميركي، ولا أن تحظى باعتراف المجتمع الدولي ككيان سيادي فاعل.
مصادر متابعة للقاءات كشفت أن باراك أبلغ المسؤولين اللبنانيين، بشكل غير مباشر، أن واشنطن رفعت يدها عن الملف اللبناني بعد سنوات من محاولات الاحتواء والدعم السياسي والاقتصادي والأمني، وأن الميدان مفتوح من الآن فصاعدًا لتصرفات القوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل وسوريا. وكانت عبارته للصحافيين ردًا على سؤال عما إذا كان هناك خطر حرب: “لو كنت قادرًا على ضمان ذلك للبنانيين لكنت أمشي على الماء بدلًا من أن أمشي على الأرض”.
ولمن لا يعرف، فإن السيد المسيح هو من مشى على الماء في إحدى عجائبه لإنقاذ تلاميذه الذين كانوا على وشك الهلاك، في إشارة واضحة إلى أن ضمان عدم قيام الحرب يحتاج إلى أعجوبة.
من هنا، يبدو ٧ تموز ٢٠٢٥ موعدًا مفصليًا، كما كان ذاك اليوم من كانون الأول ١٩٧٣، إذ اجتمع الرؤساء الثلاثة على مبدأ أن لبنان دولة فاشلة لا قدرة لها ولا قوة في مواجهة حزب الله رغم الخسائر التي تكبدها. هذا اليوم هو اليوم الذي دخل فيه لبنان مرحلة ما بعد الدولة، حيث تحوّل من كيان مستقل إلى ساحة تصفية حسابات، بلا قدرة على الحسم أو حتى الاعتراض.
وسيكتب المؤرخون لاحقًا أن هذا اليوم لم يكن حدثًا منفردًا، بل بداية النهاية للبنان الكبير… أو لما تبقى منه.