في ظل رهان الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التوصّل إلى "صفقة كبرى" مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تتزايد المؤشرات على أن موسكو لا تبدو مستعدة لتقديم تنازلات تتناسب مع منطق التسويات المرحلية، بل تتمسّك بمطالب تصفها بـ"الوجودية"، مقابل مساعٍ أميركية يُنظر إليها في الكرملين كمحاولة لتجميد النزاع لا إنهائه.
ويطرح هذا التباين تساؤلات جوهرية حول مدى فهم ترامب لمقاربة الكرملين للصراع، وما إذا كان قادرًا على انتزاع تسوية في ظل تصلّب الموقف الروسي وتعارض المصالح داخل المعسكر الغربي نفسه.
يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة سيفاستوبول، عمّار قناة، أن محاولة ترامب لإيجاد تسوية للصراع الأوكراني تصطدم بعقبات تتعدى العلاقة مع موسكو، لتصل إلى تضارب المصالح داخل المنظومة الغربية ذاتها. ويوضح أن التباين في المواقف بشأن تزويد أوكرانيا بالسلاح يعكس ارتباكًا سياسيًا لدى إدارة ترامب، لا ضعفًا، خاصة في ظل ضغوط داخلية تواجهها من المؤسسات الأميركية.
ويشير قناة إلى أن موسكو ترفض أي حديث عن وقف مؤقت لإطلاق النار، وتعتبر أن أي مسار تفاوضي يجب أن ينطلق من "الحقائق العسكرية" التي فرضتها الحرب، وعلى رأسها الاعتراف بسيادتها على المناطق التي ضمّتها من أوكرانيا. ورغم أن الكرملين ينظر إلى ترامب كشخصية تفاوضية مرنة، إلا أنه يُفرّق بين النوايا السياسية والقدرة الفعلية على التأثير.
في موازاة ذلك، يُبدي الكرملين قلقًا متزايدًا من التحوّلات في الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية، خصوصًا في ظل رفع حلف شمال الأطلسي نفقاته العسكرية إلى 5% من الناتج المحلي، وإطلاق برامج تسلّح واسعة في عدة دول أوروبية. ويُنظر إلى هذه التوجهات في موسكو كإشارات على نوايا تطويق وردع، لا على أنها مجرد إجراءات دفاعية.
كما تطرّق قناة إلى تقارير تحدّثت عن قدرة ألمانيا على تطوير سلاح نووي خلال أشهر، وهو ما تعتبره موسكو "رسائل مبطّنة" تنذر بسباق تسلّح جديد قد يعيد القارة إلى أجواء الحرب الباردة.
وفي ظل تعثّر المسار التفاوضي، يرى مراقبون أن ترامب يفتقر إلى أدوات الضغط الكفيلة بإقناع موسكو بالانخراط في مسار تفاوضي جاد، خاصة في ظل تراجع الدعم العسكري الأميركي لكييف. فبينما يحاول ترامب تقديم "تجميد النزاع" كمبادرة سياسية، تتمسك روسيا بمواقفها الاستراتيجية، وترى في وقف إطلاق النار مجرّد "هدنة خادعة" لا تخدم مصالحها طويلة الأمد.
ويُضيف قناة أن روسيا تدرك الاستخدام الانتخابي للتصريحات التصعيدية التي يطلقها ترامب ضد موسكو وبكين، ولا تأخذها على محمل الجد، لكنها في الوقت نفسه مستعدة لاستغلال أي ثغرة أميركية لتعزيز موقفها العسكري والسياسي في أوكرانيا.
في المحصّلة، لا يبدو أن الكرملين يسعى إلى اتفاق توافقي، بل إلى إقرار أميركي وأوروبي بالواقع الجديد الذي فرضته الحرب. وفيما يستعرض ترامب "مبادرة سياسية"، تتمسك موسكو بـ"وقائع استراتيجية" تعتبرها غير قابلة للتنازل، ما يجعل الحديث عن تسوية قريبة أقرب إلى الرغبة منه إلى الواقع.
السؤال لم يعد ما إذا كان ترامب قادرًا على إبرام صفقة مع بوتين، بل: هل يفهم ترامب أصلًا ما تريده موسكو؟ وربما تشكّل الإجابة عن هذا السؤال مدخلًا لفهم مستقبل أوكرانيا… وأمن أوروبا برمّته.