المحلية

محمد المدني

محمد المدني

ليبانون ديبايت
السبت 12 تموز 2025 - 07:12 ليبانون ديبايت
محمد المدني

محمد المدني

ليبانون ديبايت

رئيس الجمهورية… والسلام مع إسرائيل

رئيس الجمهورية… والسلام مع إسرائيل

"ليبانون ديبايت" - محمد المدني

شكّل تصريح رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون يوم أمس عن أن “التطبيع مع إسرائيل أمر غير وارد”، محطة بالغة الأهمية يجب التوقف عندها، خصوصًا في ظل محاولات سياسية وإعلامية مستترة لفرض مسار تطبيعي على لبنان، تحت عناوين متعددة تبدأ بالسلام، ولا تنتهي عند إعادة التموضع الإقليمي.


هذا الموقف الرئاسي، وإن جاء في توقيت مشحون داخليًا وإقليميًا، فإنه يعيد التأكيد على ثوابت وطنية لطالما شكّلت جزءًا من هوية لبنان السياسية، ويستدعي نقاشًا معمّقًا حول ما يُراد للبنان أن يكون عليه في المرحلة المقبلة، في ضوء ما تشهده المنطقة من تحوّلات عميقة.


وأكد رئيس الجمهورية في تصريحاته الأخيرة موقف لبنان الثابت في رفض التطبيع مع إسرائيل، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى دعم مفهوم “حالة اللا حرب” معها، أي التزام وقف الأعمال العدائية وعدم الانخراط في صراع مسلح مباشر. هذا الموقف يعكس فهمًا دقيقًا للفرق بين السلام بمعناه الضيق الذي يعني تجنّب الحرب المباشرة، وبين التطبيع الذي يتطلب اعترافًا كاملًا وعلاقات دبلوماسية طبيعية مع العدو.


وفي ظل هذه التحوّلات المتسارعة، يبدو أن لبنان لم يعُد في منأى عن الضغوط التي تمارسها قوى دولية وإقليمية بهدف دفعه إلى إعادة صياغة موقعه من الصراع مع إسرائيل. ومع توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات تطبيع مع الكيان الإسرائيلي، تتزايد المؤشرات على وجود محاولة، ولو غير مباشرة، لفرض مسار مشابه على لبنان، ولكن بأسلوب ناعم وتدريجي، يبدأ من اللغة ويتسلل إلى المواقف، قبل أن يُترجم إلى وقائع سياسية وأمنية.


في هذا السياق، يُصبح من الضروري التمييز بدقة بين مفهومي “السلام” و”التطبيع”، خاصة بعدما بات الخلط المتعمّد بينهما أداة تضليل تُستخدم لتمرير مشاريع مشبوهة. فبينما يشير مفهوم السلام إلى وقف الأعمال العدائية وتهدئة النزاع المسلح بين دولتين، لا يعني ذلك بالضرورة قيام علاقات طبيعية أو اعترافًا متبادلًا. لبنان، مثلًا، وقّع على اتفاق هدنة مع الكيان الإسرائيلي عام 1949، لكنه لم يبرم أي معاهدة سلام رسمية، وما زال يعتبر نفسه في حالة صراع مع كيان يحتل أراضٍ لبنانية وينتهك سيادته بشكل دائم. فالسلام في هذه الحالة هو مجرد وقف مؤقت للنار، وليس مصالحة ولا اعترافًا بشرعية الاحتلال.


أما التطبيع، فهو انتقال إلى مستوى مختلف كليًا، يتجاوز التهدئة العسكرية إلى الاعتراف العلني والمباشر بشرعية الكيان الإسرائيلي، وفتح أبواب التعاون معه على مختلف المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. فالتطبيع لا يقتصر على العلاقات بين الحكومات، بل يمتد إلى المجتمعات، ويستهدف الوعي الجماعي بهدف تحويل العدو إلى شريك طبيعي، بل إلى جار يمكن التعايش معه، تمامًا كما تُصوّره وسائل الإعلام المتواطئة.


والخطير في ما يواجهه لبنان اليوم أن هناك مسارًا غير معلن لمحاولة فرض هذا النوع من التطبيع الناعم، من خلال الضغوط الدبلوماسية المتكررة التي تمارسها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام التابعة لدول مطبّعة، التي تبث خطابًا مخدِّرًا يُظهر إسرائيل كدولة عادية، ويُخفي خلف “السلام الاقتصادي” مشروع إلغاء الذاكرة والمقاومة.


والمؤسف أن جزءًا من الطبقة السياسية في لبنان لا يملك المناعة الكافية لمواجهة هذا المسار، بل على العكس، هناك من يُبدي استعدادًا مقلقًا للانخراط فيه، تحت شعار الواقعية أو الانفتاح، متجاهلين أن هذا النوع من الانخراط لا يهدد فقط موقع لبنان في الصراع، بل ينسف الأساس الذي تقوم عليه سيادته وهويته. إن هؤلاء يتحدثون في العلن عن التمسك بالحقوق، لكنهم في الخفاء ينسّقون مع الجهات الغربية، ويستجدون الغطاء الدولي، ولو على حساب الكرامة الوطنية.


في المقابل، ما زال في لبنان قوى ومجتمعات وشرائح واسعة ترفض الانزلاق إلى خيار التطبيع، وتدرك خطورته على الهوية الوطنية والسلم الأهلي. هذا الوعي يشكل خط الدفاع الأول في وجه محاولات الاختراق، لكن المطلوب اليوم أكثر من الرفض، المطلوب تحصين الموقف الوطني العام، وتوحيد الخطاب السياسي والإعلامي، لأن أي خطوة رسمية منفردة من قبل السلطة في هذا الاتجاه قد تُحدث شرخًا وطنيًا خطيرًا يهدد التماسك الداخلي.


إن المعركة اليوم ليست فقط على الحدود، بل في الوعي. وإذا لم تُخض هذه المعركة على مستوى الثقافة والإعلام والتعليم، فإننا قد نصل إلى مرحلة يُصبح فيها التطبيع رأيًا مقبولًا، بل خيارًا عقلانيًا يُقدَّم كحل لأزماتنا.


إن السلام الذي لا يستند إلى العدالة، ليس سلامًا، بل تهدئة ظرفية تخدم مصلحة الأقوى. أما التطبيع، فهو اختراق ناعم لأعماق الشعوب، وسلاح فعّال لإخضاعها من دون إطلاق رصاصة واحدة. لهذا، فإن معركة لبنان الحقيقية اليوم هي معركة وعي وصمود، لا تقلّ أهمية عن معاركه السياسية والعسكرية. والصمود هنا لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بقدرتنا على عدم الانزلاق إلى التسويات المسمومة التي تُغلف بالحرير، لكنها تُخفي السم في كل خيط منها.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة