آخر فصول هذا المشهد، ما أثاره نقيب أصحاب المطاعم في لبنان من جدل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما دعا الزبائن إلى ترك "بقشيش" بنسبة تتراوح بين 12% و15% من قيمة الفاتورة، معتبرًا الأمر من "أصول الضيافة".
لكن ما اعتبره النقيب "أصولًا"، رآه كثيرون "فصلًا جديدًا من فصول الوقاحة". فانهالت التعليقات الغاضبة، واشتعل النقاش حول مفاهيم البقشيش: بين العرف، والفرض، والابتزاز... والفساد المقنّع.
لم تمرّ دعوة النقيب مرور الكرام، بل فجّرت موجة رفض عارمة عبّرت عن حجم الاحتقان الشعبي في بلد يرزح تحت أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
من أبرز التعليقات التي لاقت تفاعلاً واسعًا:
"الزبون حر، وما فيك تجبرو يدفع بقشيش… حتى بأوروبا ما في هيك شي!"
"حضرة النقيب، الفاتورة أصلاً ما قادرين ندفعها… من وين نجيب البقشيش؟"
"من هلق ورايح self-service، ما رح أترك ولا ليرة."
"شو رأيك ندفع معاشات الموظفين كمان؟"
الغضب لم يأتِ من فراغ. ففي ظلّ ارتفاع الأسعار وغياب الرقابة على الفواتير والتسعير، بات البقشيش عبئًا إضافيًا على المواطن الذي يُكافح فقط لتأمين الأساسيات.
قانونيًا... لا شيء يُلزِم
مصدر قانوني، أكّد في حديث إلى "ليبانون ديبايت" أن لا نصّ قانونيًا يُلزم الزبون بدفع البقشيش، الذي يبقى ضمن إطار العرف الاجتماعي وليس الالتزام القانوني. وهو يُعطى فقط إذا كان الزبون راضيًا عن الخدمة.
وشدّد المصدر على أن "النقابة لا تمتلك صفة تشريعية أو تنظيمية تمكّنها من فرض نسب أو رسوم، وتصريح النقيب لا يتعدّى كونه توصية أو رأيًا شخصيًا، لكنه طُرح – وربما فُهِم – كنوع من الضغط غير المباشر".
وتابع: "الرقم المطروح (12 – 15%) يُعد مرتفعًا وغير مألوف، ويمنح الانطباع بأن البقشيش بات خدمة إلزامية، في وقت لا يستطيع فيه المواطن تحمّل حتى الفاتورة الأساسية".
بين "النافعة" و"البقشيش"... خيط رفيع يفصل العُرف عن الابتزاز
لم يتأخّر البعض في الربط بين تصريح النقيب وبين ما يجري في إدارات الدولة من مخالفات، لا سيّما في ملف "النافعة"، الذي شهد مؤخرًا سلسلة توقيفات على خلفية تقاضي رشى لتسريع المعاملات.
فهل البقشيش صار "رشوة اجتماعية"؟ وهل الضغط المعنوي على الزبون كي يبدو "كريمًا" يُشبه ما يفرضه الموظف الرسمي للحصول على "حقه" من الدولة؟
يُعلّق المصدر القانوني: "لا مقارنة قانونية بين الحالتين، لكن التأثير النفسي متقارب. فالتصريح يُشعر المواطن أن رفض البقشيش يُظهره بمظهر البخيل أو المهين للندل، وهذا نوع من الابتزاز المعنوي المقنّع والمرفوض".
هل باتت الأخلاق مقيّدة بالتسعيرة؟
في معظم دول العالم، يُعتبر البقشيش لفتة اختيارية. ففي أوروبا، تُدرج رسوم الخدمة ضمن الفاتورة، أما في الولايات المتحدة، فالبقشيش ثقافة راسخة لكنه أيضًا محطّ جدل واسع، بسبب استغلاله كوسيلة لسدّ فجوة الأجور.
في لبنان، طالما استند القطاع السياحي إلى عادات الكرم، لكن حين يتحوّل الكرم إلى واجب أو وصمة اجتماعية، ينتقل الأمر من خانة الأخلاق إلى خانة الابتزاز.
دعوا المواطن يقرّر... لا تُحمّلوه أكثر مما يحتمل
تصريح نقيب أصحاب المطاعم جاء في غير زمانه ومكانه. في وقت يسقط فيه اللبناني تحت وطأة الفواتير والضرائب والرسوم، لا يحتاج إلى من يُذكّره بواجب إضافي تحت عنوان "الذوق العام".
اللبناني ليس بخيلًا. بل مُرهَق. يُكافح ليصمد. يحاول أن يتنفّس في مطعم أو مقهى ليُنسي نفسه قليلًا... فلا تُحمّلوه ما لا يحتمل.
أما "البقشيش"، فليبقَ كما يجب أن يكون: خيارًا نابعًا من الرضا، لا عبئًا يُقاس بالنسبة، ولا بطاقة يُهدَّد بها من لا يستطيع الدفع.