لم يعد الصراع بين القوى العظمى في القرن الحالي يُقاس بعدد الدبابات أو بمديات الصواريخ العابرة للقارات، بل باتت معايير القوة تُحدَّد بحجم السحابة الرقمية، وسرعة المعالج، ودقة الخوارزميات. وفي عالمٍ تحوّلت فيه خرائط الهيمنة من الجغرافيا إلى البيانات، تخوض الولايات المتحدة والصين واحدًا من أعمق وأخطر سباقات النفوذ في التاريخ المعاصر: سباق الريادة في الذكاء الاصطناعي.
هذا السباق ليس مجرد منافسة بين شركات أو مختبرات، بل هو صراع حضاري يمتد من أقبية الأبحاث السرية إلى مراكز القيادة العسكرية، ومن أبراج بكين إلى وادي السيليكون. في عام 2030، أعلنت الصين عزمها على تجاوز الولايات المتحدة لتصبح الأولى عالميًا في الذكاء الاصطناعي، فجاء الرد الأميركي عبر تمويلات ضخمة، وسباق محموم على المعالجات، وتحالفات كبرى مع شركات التقنية.
تسعى بكين إلى دمج الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في صميم بنيتها العسكرية، من أنظمة القيادة والسيطرة إلى المستشعرات ومنصات الإطلاق، وأتمتة تحليل ساحة المعركة، وصولًا إلى التأثير في قرارات العدو وإرادته ضمن ما يُعرف بـ"الحرب المعرفية". وقد عرضت شركات الدفاع الصينية أنظمة متطورة مثل "نظام الضربات الدقيقة الذكي" القادر على إرسال مسيّرات وتحليل بياناتها الفورية لوضع خطط الهجوم وتنفيذ الضربات آليًا مع تدخل بشري محدود. وتؤكد العقيدة العسكرية الصينية أن هذه المنظومات المترابطة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تمثل "شبكات قتل ديناميكية" عابرة لمختلف ميادين القتال.
في المقابل، يركز البنتاغون على تعزيز "التفوق القراري" للقادة الميدانيين عبر مبادرات كبرى مثل "القيادة والسيطرة المشتركة لجميع الميادين" (JADC2)، التي تربط جميع أدوات المراقبة والاستطلاع والقتال في شبكة واحدة متكاملة. كما يوظف برامج مثل "مشروع مايفن" لاستخدام تقنيات رؤية الآلة في تحليل صور ومقاطع فيديو من الأقمار الصناعية والمسيّرات بدقة وسرعة، ما يمنح القادة رؤية فورية وشاملة لساحات القتال.
ورغم أن كلا البلدين يستثمر بكثافة في الحرب المعلوماتية، يختلف النهج بينهما؛ إذ تفرض الولايات المتحدة قيودًا قانونية وأخلاقية تضمن بقاء السيطرة البشرية الفاعلة على الأسلحة، بينما تميل الصين إلى العمل في إطار مركزي صارم، مستفيدة من قدرات المراقبة الداخلية الضخمة لتطوير وتدريب خوارزمياتها. وإلى جانب الاستخدام العسكري المباشر، يوظف الطرفان الذكاء الاصطناعي في تحليل الرأي العام ونشر الدعاية والمعلومات المضللة، بما في ذلك تصميم محتوى "تزييف عميق" وتنفيذ عمليات تأثير نفسي موجهة.
ويمتد السباق إلى ميدان الأسلحة الذكية والأنظمة المستقلة. ففي الجو، تتسابق واشنطن وبكين على تطوير أسراب المسيّرات القادرة على تنفيذ مهام هجومية واستطلاعية بشكل جماعي، فيما تدمج الصين المسيّرات البحرية والبرية في ترسانتها، بما في ذلك "الكلاب الآلية" المسلحة، التي ظهرت في تدريبات عسكرية وهي تقتحم المباني وتطلق النار. وفي الولايات المتحدة، تُستخدم الروبوتات الميدانية لأغراض الاستطلاع وحماية القواعد، مع توجه متزايد نحو تسليحها لمواكبة التطور الصيني. كما يشمل السباق تطوير مركبات أرضية موجهة، وأنظمة بحرية مسيّرة، ومنصات قتالية مستقلة أو شبه مستقلة.
ولا يقتصر التنافس على ميادين القتال، بل يمتد إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج اللغوية الكبيرة، حيث أطلقت الصين نماذج منافسة لـ"تشات جي بي تي" مثل "إرني بوت" و"ديب سيك" و"كوين"، مدعومة برقابة صارمة لضمان انسجام مخرجاتها مع الخطاب الرسمي. أما النماذج الأميركية مثل "تشات جي بي تي" و"جيميني" و"كلود"، فتركز على الأسواق العالمية وتسمح بنقاش سياسي أوسع نسبيًا، وإن كانت تخضع بدورها لقيود على المحتوى. وعلى الرغم من غياب الحضور الأميركي في السوق الصينية، تسعى الشركات الصينية للتوسع خارجيًا، خصوصًا في الأسواق الناشئة.
ويستثمر الجانبان موارد هائلة في توظيف الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، من تصميم الأدوية واللقاحات إلى اكتشاف مواد جديدة ومحاكاة الظواهر الفيزيائية والمناخية. في الولايات المتحدة، حقق "ألفا فولد" من "ديب مايند" ثورة في فهم البروتينات، فيما تواصل المختبرات الوطنية والأكاديمية استغلال التعلم الآلي لتسريع الاكتشافات. وفي الصين، وصلت شركات ناشئة مثل "Insilico Medicine" إلى تطوير أدوية عبر الذكاء الاصطناعي دخلت مراحل تجارب سريرية متقدمة، بدعم من برامج حكومية ضخمة ومؤسسات بحثية عسكرية ومدنية. كما يستخدم الطرفان الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة سلاسل الإمداد، وتصميم المحركات، وتطوير الرادارات وأنظمة الدفع.
ورغم التشابه في المسارات، يختلف المشهد المؤسسي بين البلدين؛ ففي الصين، يقود التخطيط المركزي والاستثمار الحكومي الضخم برامج التطوير، ضمن إستراتيجيات مثل "التكامل العسكري-المدني"، و"خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل الجديد". أما في الولايات المتحدة، فيقود القطاع الخاص الابتكار مدعومًا بإطار تشريعي وتمويلي فدرالي مثل "قانون المبادرة الوطنية للذكاء الاصطناعي" و"قانون الرقائق والعلوم".
إن هذا السباق يتجاوز حدود المنافسة التكنولوجية ليصبح عنصرًا محوريًا في موازين القوة العالمية. فالذكاء الاصطناعي يعيد رسم حدود الهجوم والدفاع، ويحوّل ساحات المعارك إلى ميادين تعج بالأنظمة المستقلة والمستشعرات الذكية، ويفتح الباب أمام استخدام غير مسبوق للتأثير النفسي والمعلوماتي. وفي حين يبشر بطفرة علمية واقتصادية، فإنه يثير في الوقت ذاته مخاطر انتشار الأسلحة المستقلة دون ضوابط، واحتمال الدخول في سباق تسلح لا يختلف في خطورته عن سباق التسلح النووي في الحرب الباردة. النتيجة النهائية لهذا الصراع غير محسومة، لكن المؤكد أن من سيتصدر الريادة في الذكاء الاصطناعي سيحوز مفاتيح النفوذ والسيطرة في القرن الحادي والعشرين.