انتهجت الجزائر على مدار العقدين الماضيين سياسة الحياد الإيجابي وعدم التدخل بالشؤون الداخلية لدول الجوار والإقليم، مع الحفاظ على علاقات جيدة قائمة على التعاون والاحترام المتبادل مع الأطراف العربية والدولية.
ولكن بحسب بعض الخبراء والمراقبين، فإن التغيرات الإقليمية والدولية والأزمات التي تحدث في الدول المجاورة للجزائر وتهدد أمنها القومي تتطلب نهج مختلف بالتعاطي مع أزمات دول الجوار، خاصة وأن الجزائر تسعى بشكل دائم لضبط الأمن داخلياً وخارجياً وعلى حدودها، وتعمل على إرساء أسس الاستقرار وعدم التورط في أي صراعات إقليمية أو دولية.
الجزائر ومالي.. علاقة هشة تفصلها شعرة عن الانفجار
منذ عهد الاستقلال تميزت العلاقة بين الجزائر ومالي بالترابط والتشابك، وظلت الجزائر داعما اقتصاديا لحكومات باماكو.
ولكن في سياق إقليمي متوتر تعيشه منطقة الساحل والصحراء بغرب أفريقيا، وضمن تحولات في جغرافيا البحث عن النفوذ والتموضع من طرف العديد من اللاعبين الدوليين، تشهد الأوضاع السياسية والأمنية بين مالي والجزائر حالة من الاتفاق الهش المهدد بالانفجار في أي لحظة وخاصة بما يتعلق بملف جبهة تحرير أزواد والطوارق. حيث تشترك مالي والجزائر في حدود برية تزيد على 1300 كيلومتر تنتشر فيها الجماعات المسلحة وتعد معقلا لشبكات التهريب في منطقة الساحل الأفريقي.
فبعد أزمة إسقاط الجزائر لطائرة مسيرة مالية في ابريل الماضي، وما تبعها من توتر غير مسبوق بالعلاقات بين البلدين فإن الإجراءات التي اتخذها البلدان الجاران بعد الحادث تؤكد عمق الأزمة، وتشعبها، بل يرى متابعون للشأن الأفريقي أنها ناتجة عن خلفيات من التوتر والخلاف وتباين المواقف حول العديد من القضايا المحلية والإقليمية وأبرزها قضية حركة أزواد.
وبحسب بعض الخبراء والمراقبين، فإن الدعم الفرنسي للطوارق وجبهة تحرير أزواد، والحركات المسلّحة المنتشرة في شمالي مالي والتي تطالب بالانفصال، بالتوازي مع التقارير التي تتحدث عن تدخل أوكراني ودعم للجماعات المسلّحة في المنطقة بغطاء غربي، سيفجر عاجلاً أم أجلاً مواجهة مع الجزائر وسوف يسبب لها أزمات أمنية كبيرة في حال لم تتحرك وتتعامل بجدية أكبر مع الموقف.
تلاعب دولي بملف الطوارق يهدد أمن الجزائر
في سياق متصل، قال موقع قناة "الميادين" نقلاً عن سائل إعلام محلية في مالي، في 5 حزيران الجاري، بأن الجيش المالي كشف عن معلومات حول تحضير "إرهابيين" لـ "عملية كبيرة" في مقاطعة كيدال في إقليم أزواد شمالي البلاد، وذلك بدعم من مدرّبين أجانب بينهم أوكرانيون وفرنسيون.
وأضافت وسائل الإعلام الماليّة أن سفارة أوكرانيا في نواكشوط "أدّت دوراً رئيسياً في تنظيم نقل المسلحين الأوكرانيين، والأسلحة للإرهابيين في البلاد". حيث سلّمت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، "الإرهابيين" في البلاد، مسيّرة من طراز "مافيك"، مزوّدة بنظام إطلاق، وفق ما نقلت وسائل الإعلام نفسها عن الجيش.
ولقي العديد من جنود الجيش في مالي حتفهم، في هجوم نفّذه مسلّحون على معسكر ديورا، في منطقة موبيتي، وسط البلاد، في 27 أيار/مايو الماضي. وأعلنت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، التابعة لتنظيم "القاعدة"، مسؤوليتها عن الهجوم الذي خلّف خسائر في القاعدة العسكرية، وفقاً لمصادر أمنية وشهود عيان كانوا في المكان.
وكانت مالي قد أعلنت في أغسطس 2024 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وذلك بسبب إقرار المتحدث باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف حينها بضلوع أوكرانيا في هجوم أسفر عن مقتل جنود ماليين وبعض المدنيين.
يأتي كل ذلك بعد انتشار العديد من التقارير الإعلامية والاستخباراتية حول نشاط لقوات أوكرانية بغطاء فرنسي في عدّة دول أفريقية مثل مالي وليبيا والسودان والصومال وغيرها لدعم الجماعات المسلّحة هناك لأهداف سياسية غربية، مما عده مراقبون تدخل فرنسي سافر بشؤون دول أفريقية، من المحتمل أن يسبب أزمات أمنية عميقة للجزائر في حال لم تتخذ إجراءات مضادة له.
تهديد جديد للجزائر من الشرق.. تدخل غربي يهدد بتوريط الجزائر بأزمة جديدة
من جهة أخرى، انتشرت بعض التقارير الإعلامية والاستخبارية، في الأسابيع القليلة الماضية، حول استخدام طائرات مسيّرة أوكرانية في المعارك الدائرة في غرب ليبيا، وبحسب التقارير، فإن حكومة الوحدة الوطنية وبإشراف مباشر من رئيسها عبد الحميد الدبيبة قامت بشراء طائرات مسيّرة أوكرانية لاستخدامها في القتال ضد ميليشيا "الردع" بقيادة عبد الرؤوف كارة.
ووفقاً للناشط الصحفي، ناصر عمار، إن المشرف المباشر على عملية شراء المسيّرات وتوريدها إلى طرابلس من الطرف الليبي هو اللواء عبد السلام زوبي آمر ميليشيا 111، بينما من الطرف الأوكراني فإن المنسق العام هو الملحق العسكري الأوكراني لدى دولة الجزائر التي تملك حدود كبيرة من الغرب مع ليبيا اندري بايوك.
وكان موقع "إنتليجنس أونلاين" الذي يوثق عمل أجهزة الاستخبارات المحلية والأجنبية قد نشر تقريراً حول طلب المخابرات الأوكرانية المساعدة والدعم من فرنسا لمحاربة النفوذ الروسي المتنامي في أفريقيا وإسقاط الأنظمة الموالية لروسيا في القارة السمراء.
أثر التهديدات الجنوبية على أمن الجزائر
وفقاً للباحث المتخصص بالشؤون الأفريقية محمد سعيد بن فرحان فإن ملف الطوارق يعد من أخطر التهديدات على الأمن القومي الجزائري وخاصة بعد الدعم الفرنسي-الأوكراني لهم، ودخول ورقة حركة أزواد ملعب المساومة السياسية.
وبحسب بن فرحان فإن قبائل الطوارق تنتمي "جغرافيًّا" إلى عدّة دول في الصحراء الكبرى، منها الجزائر ومالي والنيجر وليبيا. ولم تحضر فكرة الحدود الجغرافية في أذهان الطوارق قبل الاستعمار. لذا فإن هذه الأفكار إلى جانب السعي الحثيث من قبل جبهة تحرير أزواد للانفصال عن مالي بدعم فرنسي مستمر، وأوكراني جديد، يهدد بشكل مباشر باحتمال نشوب ثورة لطوارق الجزائر ومطالبتهم بالانفصال لاحقاً. وبحسب الخبير من غير المستبعد أبداً أن تلعب فرنسا لاحقاً بورقة طوارق الجزائر للضغط على الحكومة الجزائرية بملفات سياسية معينة.
الحلول المقترحة
في سياق متصل، يرى الخبير بن فرحان، بأنه من الضروري أن تتحرك الحكومة الجزائرية بجدية لمواجهة التهديدات القادمة من الجبهة الجنوبية. وبحسب الخبير فإن أهم الخطوات والإجراءات التي يمكن أن تتخذها الجزائر، هي محاولة ردع فرنسا عن التدخل بملف الطوارق سياسياً وأمنياً، محاولة إيقاف الدعم العسكري واللوجستي القادم للطوارق عبر الحدود من دول الجوار، والقضاء على الجماعات المسلّحة والحركات الإرهابية التي تنشط هناك، إلى جانب العمل على تنسيق الجهود مع الحكومة المالية ومساعدتها بضبط هجمات الجماعات المسلّحة في إقليم أزواد وإحباط مخططاتهم بالانفصال.
وتوجه بن فرحان للحكومة الجزائرية بضرورة تعديل نهجها المحايد بالتعامل مع الملفات الأمنية في دول الإقليم، والانخراط بحل الأزمات قبل أن تصل لداخل الجزائر وتؤذي أمنها وشعبها.