"ليبانون ديبايت" - محمد علوش
لم يكن خطاب الرئيس نبيه بري في 31 آب مناسبة تقليدية لإحياء ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر. الرجل صعّد لهجته إلى حد غير مسبوق، واضعًا خطوطًا حمراء في وجه الخطاب الإسرائيلي وخلفه الأميركي، لكنّه في الوقت نفسه تعمّد أن يترك نافذة مفتوحة على النقاش الداخلي. خلف هذه الثنائية، تتكشّف ملامح مبادرة جديدة حملها بري إلى رئاستي الجمهورية والحكومة في الساعات القليلة التي سبقت خطابه، وتتعلق بجلسة الحكومة الجمعة المقبلة، التي تأجلت من الثلاثاء إلى الجمعة من أجل تكثيف الاتصالات والبحث بالمخارج.
مصادر قيادية في الثنائي الشيعي تكشف عبر “ليبانون ديبايت” أن المبادرة التي طرحها بري تشكل محاولة جدية لإيجاد مخرج من المأزق الذي انفجر في جلستي الحكومة في 5 و7 آب، حين تكرّس الانقسام حول قرار حصر السلاح بيد الدولة وخطة الجيش اللبناني.
الرئيس بري، بحسب المصادر، أراد أن يقلب الطاولة على الورقة الأميركية التي قدّمها الموفد توم باراك، بعدما سقطت عمليًا بقرار إسرائيلي، ليستفيد لبنان من هذا السقوط ويحوّل النقاش من حلبة المواجهة الداخلية إلى مساحة حوار أوسع. وهو في خطابه كرر ما قاله على مسمع الوفد الأميركي الذي زار لبنان مؤخرًا، بعدما سمع منه، وقبله من نتانياهو، أن المطلوب استسلام لبنان، بأن المطلوب لبنانيًا العودة إلى قرار وقف إطلاق النار.
تكشف المصادر أن جوهر المبادرة التي أطلقها بري باتجاه الرئيسين عون وسلام يقوم على فكّ الارتباط بين “الأهداف” و”الآليات”، بمعنى أن الحكومة تتبنّى مبدأ بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي، لكنها لا تلتزم بجداول زمنية ولا بآليات التنفيذ التي فُرضت من الخارج، بل تنطلق من مصلحة لبنان وأولوياته وقدراته. وبهذا، يخرج لبنان من فخ التورّط في صدام داخلي، ويحوّل النقاش إلى طاولة مجلس الوزراء بانتظار نضوج الظروف.
المصادر نفسها توضح أن الخطة التي يقترحها بري تقضي بأن يقدّم الجيش عرضًا مفصلًا لما أنجزه جنوب الليطاني، وما يتبقى أيضًا بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي، وما يحتاجه لاستكمال مهماته من دعم مالي ولوجستي وتقني بعد انتهاء مرحلة جنوب الليطاني. وبعد العرض، تعلن الحكومة “الاطلاع” على الخطة من دون تكليف الجيش ببدء التنفيذ أو إلزامه بمهلة زمنية، بل ترك المسألة لنضوج الظروف، ما يعني عمليًا تجميد الاندفاعة التي حاولت بعض القوى فرضها بعد زيارة باراك.
مبادرة الرئيس بري لا تتوقف هنا. تقول المصادر إنّها تُعيد الربط بشكل واضح بين أي تقدم في الداخل اللبناني وبين التزامات إسرائيلية مقابلة، إذ لا يمكن للبنان أن يسير في اتجاه داخلي من طرف واحد فيما تبقى إسرائيل خارج أي التزام.
يدرك بري أن تمرير هذه المبادرة لن يكون سهلًا، فالمعارضون في الداخل، ولا سيما خصوم حزب الله، سيعتبرونها مناورة لتعطيل قرار الحكومة، فيما ستزداد الضغوط الدولية على بيروت للإصرار على تطبيق قراراتها كما هي. وهنا أصل المشكلة، فنجاح المبادرة سيعني تأجيل الانفجار، وفشلها سيفتح الباب على مرحلة جديدة من التصعيد الداخلي، تبدأ بانسحاب وزراء الثنائي من الجلسة، هذا في حال أفضت الاتصالات الجارية اليوم إلى إيجابية ما تجعلهم يحضرونها من الأساس.
القلق الأكبر لدى بري أن تنجح الضغوط الخارجية في جرّ مجلس الوزراء نحو التصويت على خطة الجيش وإعلان توقيت بدء العمل بها. ففي هذه الحالة، ترى المصادر أن الحكومة تكون قد سلّمت بمخاطر رمي كرة النار في حضن الجيش اللبناني ورضيت بها.
بحسب المصادر، فإن أمام لبنان هذا الأسبوع ثلاثة سيناريوهات حاسمة:
1. نجاح المبادرة: وهو السيناريو الذي يمنح الحكومة فرصة لالتقاط أنفاسها، عبر تبنّي خطة الجيش شكليًا من دون الدخول في آليات التنفيذ. بذلك، تكون قد لبّت الحد الأدنى من التزاماتها الدولية، وفي الوقت نفسه جنّبت البلاد مواجهة داخلية.
2. فشل المبادرة: وفي هذه الحال، قد يدخل لبنان في شلل حكومي وتفجّر الأزمة على أكثر من مستوى، داخليًا وخارجيًا. هذا المسار يعني دخول البلاد في مواجهة سياسية مفتوحة، وربما أمنية، مع ضغوط متصاعدة من الخارج.
3. التسويف والتأجيل: بحيث يتحوّل النقاش إلى جلسات متتالية يتم خلالها تدوير الزوايا وشراء الوقت، بانتظار تبلور تسويات أكبر تتجاوز حدود الحكومة.
خلاصة ما تقوله المصادر: “بري رفع السقف في خطابه ليؤكد أن لا مساومة على الثوابت، لكنه في الكواليس يقدّم مبادرة لفتح الطريق أمام نقاش هادئ داخل المؤسسات. وبين التصعيد والمرونة، يبقى السؤال الأكبر معلّقًا حتى يوم الجمعة: فهل تتلقف الحكومة المبادرة وتبني عليها، أم أن لبنان يتّجه إلى جولة جديدة من الانقسام الحاد؟”