إذا هي محاولة جديدة من المركزي لدعم مصارف تقلّص دورها وأرباحها، على حساب المودعين وحقهم في صرف أموالهم أو ادخارها، ولزيادة الحركة في الأسواق التجارية من دولارات مجمّدة منذ بداية الأزمة. علمًا أنّ التمعّن في المشهد النقدي في لبنان يُظهر أن مفتاح تحريك الأسواق وزيادة السيولة فيها، هو بإعادة الثقة للبنانيين بأنه من المُجدي إخراج الدولارات التي يملكونها في خزائن منازلهم ومكاتبهم وطرحها في السوق، وهذا الأمر لن يتحقق مع مماطلة الطبقة السياسية والمصارف في إيجاد الحلول والخروج من الأزمة.
بحسب الخبراء الدولار الوحيد “الحيّ” اقتصاديًا حاليًا، هو ما تُقرّر الأسر والشركات إنفاقه أو استثماره في الداخل. لهذا السبب رُوِّج للتعاميم الأساسية 158 و166 على أنها جسر بين “دولارات المصارف” و”الاقتصاد الحقيقي”. فهي تتيح مبالغ محدودة شهريًا بالدولار الطازج للأفراد حملة الحسابات، مع جزء يُجبر على الإنفاق عبر نقاط البيع (POS). أي أنها تحاول دفع جزء من هذه السيولة نحو الاستهلاك الفعلي في السوبرماركت، والصيدلية، والمدرسة، والمستشفى. بمعنى أنه مع تدهور القدرة الشرائية لمعظم الأسر اللبنانية، وميلها للحد من الاستهلاك، اتّخذ المركزي هذا القرار بأن يكون المبلغ الذي سيُضاف على التعاميم يصرف حصرًا في نقاط البيع التجارية، كمبادرة لجذب “الدولارات الحيّة”.
الفحيلي: تعديل سقوف التعاميم وتجزئة المبالغ سيقود إلى مزيد من “التعب” النقدي
يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور محمد الفحيلي لـ”ليبانون ديبايت” أنه “خلال السنوات الماضية، لم يجلس اللبنانيون مكتوفي الأيدي ينتظرون تعميم 158 أو 166 ليأكلوا ويعلّموا أولادهم. بل حصل التالي بدرجات متفاوتة بين الفئات: شريحة واسعة من العاملين أعادت تدوير دخلها عبر وظائف جديدة، أو مداخيل إضافية بالدولار الطازج (مدارس، جامعات، مستشفيات، شركات خاصة، منظمات دولية، ومنصات عمل عن بُعد)، والتحويلات من المقيمين في الخارج بقيت شريانًا أساسيًا لتمويل الاستهلاك، سواء عبر القنوات الرسمية أو عبر قنوات غير رسمية”. لافتًا إلى أن “الهيكل السعري في الاقتصاد تكيّف مع الواقع الجديد، فكثير من السلع والخدمات باتت تُسعّر بالدولار أو على أساسه، وأجور كثيرة ارتبطت مباشرة أو جزئيًا بالعملة الصعبة. في ظل هذا الواقع، أصبح الدولار الخارج من رحم التعميم 158 أو 166 سلعة مختلفة، لم يعد “دولارًا لتأمين لقمة العيش”، بل أصبح عند كثيرين دولار ادخار احترازي، ولم يعد يُنفق بالكامل، بل يُخزَّن في الصندوق الحديدي كشبكة أمان ضد “مفاجأة جديدة” من المصرف أو الدولة أو سعر الصرف. بكلام آخر، جزء مهم من الدولارات التي أرادها مصرف لبنان متحرّكة في الأسواق، انتهى بها الأمر مجمّدة في الصناديق المنزلية”.
يرى الفحيلي أن “هذه النتيجة تخلق مفارقة قاسية، فمن جهة، اقتصاد انكمش بحوالى 40 بالمئة، بطالة مرتفعة، فقر متفشٍّ، ودولة عاجزة عن تمويل أبسط الخدمات أو إعادة الإعمار بعد حرب مدمّرة كلّفت نحو 11 مليار دولار إضافية من الأضرار والخسائر. ومن جهة أخرى، كتلة لا يستهان بها من الدولارات الطازجة متوزعة بين الخزائن الخاصة، وحسابات “فريش” جامدة في المصارف، واحتياطات حذرة في مصرف لبنان”. مُشددًا على أنه “من الخطأ اختزال النقاش في معاناة المودعين فقط، على الرغم من قسوتها وفداحتها. صحيح أنّ أكثر من 70 مليار دولار من الودائع تبخّرت أو تجمّدت بفعل الانهيار، وسوء الإدارة، والتأخير المتعمد في الاعتراف بالخسائر. لكن الأزمة اليوم تمسّ وظيفة الاقتصاد نفسه، فالقطاع المصرفي فقد دوره كوسيط بين المدّخرين والمستثمرين، لا وساطة آجال، ولا وساطة سيولة، ولا وساطة ائتمان بالمعنى الفعلي. والدولة تموّل ما تبقّى من إنفاقها من جيوب الناس مباشرة عبر الضرائب غير المباشرة، والرسوم، والتضخّم المقنّع، والقطاع الخاص المنتج يعاني من نقص تمويل طويل الأجل، وعدم يقين تشريعي وضريبي، وبيئة سياسية وأمنية هشّة”.
يجزم بأنه “نتيجة لكل هذه العوامل، تصبح الدولارات المخبّأة ليست مشكلة مودع فقط، بل مشكلة وطن. والاستمرار في تعديل سقوف التعاميم، وتغيير نسب السحب، وتجزئة المبالغ، لن يقود إلا إلى مزيد من “التعب” النقدي بلا أثر اقتصادي حقيقي. المطلوب الإجابة على السؤال التالي: “كيف نخلق بيئة تجعل الناس راغبة، لا مجبرة، على إخراج دولاراتها من الصناديق، ووضعها في خدمة الاقتصاد الحقيقي؟””. مشددًا على أن “مهمة السلطة النقدية والمالية ليست أن توبّخ الناس على هذا السلوك، بل أن تغيّر المعادلة التي تجعل صندوق الحديد أكثر جاذبية من الحساب المصرفي، وأن يقتنع اللبنانيون بأنّ قواعد اللعبة القانونية واضحة وعادلة، والخسائر وُزعت وفق تسلسل منطقي وأخلاقي، وأن القنوات الجديدة للإدخار والاستثمار مفصولة فعلاً عن تركة الفساد وسوء الإدارة. وكل دولار يُضخّ في الاقتصاد يزيد من احتمال بقاء أولادهم في هذا البلد، لا احتمال تعرّضهم لانهيار جديد بعد سنوات”.
ويختم بالقول: “عندها فقط، يمكن أن تتحوّل “دولارات الصناديق” من رمز للخوف إلى رافعة لتعافٍ تدريجي، واقعي، ومبنيّ على الثقة المشروطة، لا على الأوهام”.