لم تختلف حكومة الرئيس نواف سلام عن سابقاتها من الحكومات، لجهة المعايير التي تحكمها في وضع الموازنات، بالرغم من إدّعائها في بيانها الوزاري بأنها حكومة إصلاح، وأنها ستطبّقه قولا وفعلا في أداءها في مختلف الملفات ومنها التعيينات والموازنة. لذلك تبرأت من موازنة العام 2025 على إعتبار أن من أعدّها هي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وضيق الوقت والظروف الإستثنائية في البلد يُلزم إقرارها. لكن مع وضعها موازنة العام 2026، "ذاب الثلج وظهر المرج"، الذي يُبيّن أن نهج الحكومة المالي هو إمتداد لما سبق من غياب لأي رؤية إصلاحية، وإستسهال فرض الضرائب على القطاعات المُنتجة والمواطنين، وإعفاء الميسورين والمتنفذين في غياب إصلاح ضريبي شامل. مثلا لا ضرائب على الأملاك البحرية كما هو الحال في موازنة 2025، في حين أن مجموع الضرائب الجديدة المفروضة على الشعب اللبناني هي 676 مليون دولار، ولا أموال للإعمار وتأهيل البنى التحتية بإستثناء 31 مليون دولار خُصّصت لمجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة، وبحسب الخبراء موازنة 2026 هي نسخة شبه مطابقة عن موازنة عام 2025.
زيادة النفقات على المفروشات والمستشارين!
بلغة الأرقام يبلغ إجمالي النفقات في المشروع الموازنة 505 آلاف و720 مليار ليرة، ما يوازي 5 مليارات و650 مليون دولار، أي بزيادة قدرها 15.5بالمئة عن موازنة عام 2025، والتي بلغت 427 ألفاً و695 مليار ليرة، ما يوازي 4 مليارات و778 مليون دولار. وإرتفع حجم الإنفاق العام بمقدار 78 ألفاً و24 مليار ليرة، أي حوالي 872 مليون دولار، في مشروع موازنة عام 2026 مقارنةً مع موازنة عام 2025. وأتت هذه الزيادات بشكل رئيسي في باب الرواتب والأجور وتغذية الصناديق الضامنة، والنفقات التشغيلية ومساهمة الدولة في عدد من الجمعيات التي لا تبتغي الربح.
يرصد الخبراء أن الحكومة خصصت أموالا إضافية على بند "التجهيزات"، والذي إرتفع الإنفاق فيه من 4 آلاف و539 مليار ليرة في عام 2025، إلى 8 آلاف و899 ملياراً في عام 2026. وهذا البند مُخصص لشراء الأثاث والمفروشات المكتبية، وأجهزة التكييف والتبريد، والتجهيزات الفنية التي سيُخصص لها وحدها هذا العام مبلغ 3 آلاف و133 مليار ليرة أي 36 مليون دولار، فضلاً عن إضافات في الإنفاق على بند "التجهيزات الأخرى" غير المحدّدة في نص الموازنة. كما زاد الإنفاق أيضاً في البند المتعلق بـ"الدروس والاستشارات" أي المستشارين، والذي إرتفع الإنفاق عليه بنسبة 114بالمئة أي ما يوازي 14 مليون دولار. أما في عام 2025، فبلغ الإنفاق على الدراسات والإستشارات 6 ملايين و517 ألف دولار.
خلل في الرؤية والأولويات
كل ما سبق يوصل إلى نتيجة مفادها، أنه في ظل الأزمة الإقتصادية والإجتماعية غير المسبوقة التي يعيشها لبنان، تأتي نصوص الموازنة المقدمة لتكشف عن خلل جوهري في الرؤية والأولويات، حيث تغيب العدالة وتتفشى السياسات الإنكشافية التي تثقل كاهل المواطن والقطاع المنتج دون أي إصلاح حقيقي. وبحسب الخبراء يمكن الإستدلال على هذه النتيجة من خلال عدة نقاط :
أولاً: يعطي قانون الموازنة صلاحيات مطلقة للإعفاء من الغرامات وتكريس الفساد بشكل خطير، يُهدد المالية العامة ويُهدر آخر فرصة لاسترداد أموال الدولة. إذ يمنح النص (الموازنة) وزير المالية سلطة مطلقة للإعفاء من الغرامات بمبالغ تصل إلى ٦٠ مليار ليرة، كما يعطي مجلس الوزراء سلطة غير محدودة تقريبا،ً للإعفاء من الغرامات التي تتجاوز هذا المبلغ. هذه الصلاحيات الإستثنائية، التي تشبه صلاحيات "حكومة تصريف الأعمال" لا تملك الشرعية الكاملة، تفتح الباب على مصراعيه للمحاصصة والصفقات السياسية تحت طاولة "تسوية الديون"، وتُكافئ المتهربين من الضرائب على حساب المكلفين الملتزمين، مما يكرس ثقافة الإفلات من العقاب ويُغتال آخر معالم العدالة الضريبية.
ثانياً: تفرض الموازنة ضرائب مجحفة في غياب إصلاح ضريبي شامل، والخطوة الأكثر إثارة للإستغراب هي الغياب التام لأي إصلاح ضريبي حقيقي. فبدلاً من العمل على توسيع القاعدة الضريبية بشكل عادل، بفرض رسوم على واردات جديدة كـرسوم على إشغال الأملاك البحرية والنهرية، التي تستغل من قبل فئات محدودة وذات نفوذ، أو معالجة الثغرات في النظام الحالي، نجد أن الحل الوحيد الذي تقدمه الموازنة هو تكثيف الضغط على القطاع الرسمي المرتبط بالبنوك، والمرخص له عبر فرض ضرائب مُسبقة بنسبة 3 بالمئة على المستوردات وعلى مدفوعات المكلفين لبعضهم البعض. هذه الآلية تحوّل المكلفين إلى جباة للضرائب وتستقطع سيولتهم النقدية الشحيحة أصلاً، مما يخنق الأعمال ويُثبط أي فرصة للتعافي الإقتصادي، وهي تتجاهل بشكل فاضح مبدأ القدرة على الدفع، مما يجعلها ضريبة على رأس المال العامل وليس على الدخل.
ثالثاً: غياب تام لإعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية في ذروة الحاجة إلى خطة إنقاذ وطنية، نجد أن الموازنة تخلو تماماً من أي بند جوهري مخصص لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، ولا تتضمن أي اعتمادات حقيقية لتأهيل البنى التحتية المنهكة من طرقات وكهرباء ومياه وصرف صحي، والتي هي أساس أي تنمية إقتصادية. هذا الغياب يؤكد أن الحكومة تتخلى عن دورها الأساسي في إصلاح أساسيات العيش والإقتصاد، تاركة الشعب والقطاع الخاص يواجهان الإنهيار بمفردهما.
رابعاً: إهدار المال العام وحرمان الجيش من حقه، في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن "حصرية السلاح" و"تعزيز الجيش"، نجد أن النص الخاص بتمويل الجيش يكشف عن خديعة كبرى. تم تأجيل اعتمادات الدفع الواردة في القانون رقم ٣٠ تاريخ ٢٠١٥/١١/٢٤ (الإجازة للحكومة عقد نفقات من أجل حقيق عتاد وتجهيزات وبنى تحتية ملحة لصالح الجيش وتعديلاته)، بحيث يوزع رصيد إعتمادات الدفع أموال جديدة لتحديث العتاد والتجهيزات الى ما بعد العام ٢٠٢٧. هذا يعني أن الجيش، خط الدفاع الأول، ما زال مُهمشاً في الموازنة، ويُحرم من الموارد الأساسية لأداء مهامه، في وقت تكون فيه التحديات الأمنية أكبر من أي وقت مضى.
خامساً: غياب تام للإصلاح الإجتماعي والإقتصادي. الصدمة الكبرى هي الغياب المطلق لأي نص إصلاحي حقيقي. لا وجود لأي بند يهدف إلى تحسين رواتب القطاع العام التي أُزهقت قيمتها بسبب التضخم، ولا أي زيادة في الإنفاق الإجتماعي لدعم الفئات الأكثر فقراً، ولا أي تحسين في تعويضات ومستحقات العسكريين والمتقاعدين، الذين دفعوا ثمناً باهظاً لأجل الوطن ويعيشون الآن في فقر مدقع. هذه الموازنة تتجاهل الإنسان تماماً، وكأنها كُتبت في دولة أخرى لا تعيش أسوأ أزمة إنسانية في تاريخها الحديث.
سادساً: تقييد الحسم الضريبي، وهذا يعني فرض عقاب إضافي للقطاع المنتج ، لأن التعديل على المادة 36 الخاص بالضريبة على القيمة المضافة، والذي يجعل مصاريف أساسية مثل الماء والكهرباء والإتصالات والوقود غير قابلة للحسم (من الضريبة)، هو ضربة أخرى تتجاهل واقع الأعمال. بدلاً من تشجيع المؤسسات على الإستثمار والتحديث، تأتي هذه النصوص لتعيقها وترفع من تكلفة عملها، مما سيؤدي حتماً إلى مزيد من إرتفاع الأسعار أو إنهيار هذه المؤسسات، في حلقة مفرغة من التدهور.
ويخلص المختصون إلى وصف موازنة 2026 بأنها "موازنة الإنهيار وليس النهوض. فالنصوص الضريبية المطروحة هي مثال صارخ على سياسة "ترقيع الثقوب" بدلاً من معالجة الجذور. لأنها تفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية والعدالة الإجتماعية، وتهمش السيادة والأمن الوطني، وتتخلى عن واجبها في إعادة البناء"، معتبرين أن "الأمة التي ترفض فرض ضرائب عادلة على الثروات والإمتيازات (كالأملاك البحرية)، وتمنح سلطات غير خاضعة للمساءلة للإعفاء من الغرامات، وتستمر في فرض ضرائبها الجائرة على القطاع المُنتج والمواطن، وتتجاهل معاناة مواطنيها وعسكرييها، هي أمة تُشرّع لنفسها طريق الإنهيار، لا النهوض".