المعطيات لم تعد مجرد تكهّنات أو اتهامات سياسية، إذ يملك “ليبانون ديبايت” تسجيلات صوتية حصرية تُظهر أن المرشد والمحرك الفعلي للمصرف كان محمد حمدون، الذي أصدر تعليماته مباشرة للمديرة العامة نايلة زيدان، موجّهاً قراراتها في توقيت إجراء المضاربة على سعر الصرف بناءً على معلومات كان يستقيها من مصادر رفيعة.
وتؤكد المعطيات أن ميشال أبو جودة، الذي كلّفه مصرف لبنان بإجراء تدقيق جنائي شفاف في حسابات “Creditbank” لإنارة السلطة المصرفية العليا حول مكامن الفساد في البنك، وضع تقريراً أظهر فيه كل العمليات المشبوهة، لكنه لم يذكر الجهات الحقيقية التي آلت إليها الأموال فعلياً. بل اكتفى بتجزئة المعلومات وتوزيعها على كامل صفحات التقرير، مشيراً فقط إلى الحسابات الوسيطة (transitory accounts) من دون تبيان مآلها الأخير.
في قلب الفضيحة، تبرز شركة “Invespro” التي استُخدمت كأداة مالية لتسجيل عمليات مقايضة وشيكات خارج الميزانية. وبحسب مصادر متابعة، لم تكن الشركة مستقلة، بل خضعت لسيطرة مباشرة من شخصيات عليا في المصرف، وكان لفادي بربر دور أساسي في تشغيلها.
المناورة الأبرز تمثّلت في عملية زيادة رأسمال وهمية عبر صفقة بيع بناية مملوكة من شما سكر، زوجة بربر، وإبراهيم سكر وبول حرب، المستشار القانوني للمصرف. الصفقة جرت بقيمة 38 مليون دولار، وهو رقم وصفه خبراء بالخيالي. الأموال دخلت حسابات شما سكر مباشرة، قبل أن تُحوَّل إلى قروض لمساهمين بارزين في “Creditbank”، أبرزهم طارق خليفة وماريا بازرجي ومحمد جوهر، في حين حُوِّل الجزء الأكبر من المبلغ إلى حساب شركة “Financial Profile Holding S.A.L.” المملوكة من شما سكر.
ورغم محاولات تصوير بربر كـ“ضحية” لتلاعبات طارق خليفة وبول حرب، إلا أن الوقائع تكشف استفادته وعائلته المباشرة من الصفقة، إذ حصدت زوجته المبلغ الأكبر من عائدات البيع، فيما استفادت شركتها القابضة من إعادة توزيع الأموال. العقود التي وقّعتها شما سكر بنفسها لصالح المساهمين تقطع الشك باليقين حول عمق تورّط العائلة في المخطط.
من جهة أخرى، تكشف الوثائق أن محمد حمدون استغل منصة “Sayrafa” التابعة لمصرف لبنان بشكل جشع، إذ شغّل 70 حساباً لجني ملايين الدولارات شهرياً، لا لتغطية حاجات الاستيراد كما صُمّمت المنصة، بل لتحقيق أرباح من المضاربة بالعملة وتحويل هذه الأرباح عبر شبكة تبييض أموال واسعة ومتشعّبة. ما حوّل الأزمة المالية إلى وسيلة للثراء غير المشروع على حساب الاقتصاد الوطني. وتشير المعلومات إلى أن الجزء الأكبر من الأرباح حُوِّل إلى حسابات عائدة لعائلة حمدون، ولا سيما زوجته وابنه كريم حمدون وصهره ربيع فخر الدين، وهما رجلا أعمال معروفان يملكان مع آخرين شركة “7 Management” التي حققت نجاحاً كبيراً في مجال المطاعم والترفيه والسهر، وتوسعت مؤخراً في دولة الإمارات باستثمارات ضخمة وافتتاح سلسلة محلات ناجحة مثل 7Sisters، إم شريف Deli وMeat the Fish.
كما كشفت الوثائق عن منافع بملايين الدولارات ذهبت إلى حسابات مملوكة من علي حمد ونجله أيمن، إضافة إلى عقود قروض وهمية موقّعة بين أحد أفراد عائلة حمدون وشريف وهبي، المنتمي مع حمد إلى الجهة السياسية نفسها.
وفي تطور قضائي لافت، علم “ليبانون ديبايت” أن القاضي كمال نصار بات على بيّنة من كل ما يُنشر حول هذه القضية. نصار، المعروف بنزاهته واستقلاليته، تسلّم منصبه في الهيئة الاتهامية في بيروت واضعاً ملف “Creditbank” في سلّم أولوياته. وأولى مهامه ستكون فتح هذا الملف على مصراعيه تحت شعار “لا أحد فوق القانون”، بهدف إسقاط الإمبراطورية المالية التي نهبت البلد.
ملف “Creditbank” ليس مجرد قضية فساد مصرفي، بل نموذج فاضح لتشابك المصالح بين رأس المال الفاسد والسياسة والقضاء المتواطئ. ومع دخول القاضي نصار على الخط، يقف لبنان أمام اختبار قضائي تاريخي: فإما أن يُفتح الصندوق الأسود لكشف الحقائق كاملة، أو تُطوى القضية كسابقاتها في أرشيف الإفلات من العقاب، فيما يبقى المواطن اللبناني رهينة منظومة نهبت ودمّرت مؤسساته.