بعد مرور عامين على انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، ومع طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطته لوقف الحرب وإدارة غزة، تتجدد النقاشات والانقسامات بين من يرى فيها فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة الإعمار، وبين من يعتبرها محاولة لإنقاذ بنيامين نتنياهو من مأزقه في غزة، وفرض استسلامٍ سياسيٍّ على المقاومة الفلسطينية بعد فشل إسرائيل في تحقيقه عسكريًا.
لكنّ ما تطرحه الخطة من جدل أعاد أيضًا إلى السطح سلسلة من المغالطات الإعلامية والسياسية التي تراكمت على مدى عامين، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأعادت تشكيل الرأي العام حول الحرب على غزة.
يُخطئ من يعتبر أن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي بدأ في السابع من تشرين الأول 2023؛ فالفلسطينيون واجهوا المشروع الاستيطاني منذ أكثر من قرن، حين أسسوا عام 1906 حزب "الاتحاد" لمناهضة الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ، لم تتوقف المقاومة، بأشكالها السياسية والمسلحة، ضد الاحتلال الاستيطاني.
يرى البعض أن العملية كانت مغامرة غير محسوبة، لكن هذا الرأي يتجاهل أن الفلسطينيين جرّبوا طريق السلام عبر اتفاق أوسلو (1993)، ولم يجنوا سوى الاستيطان والحصار ونقض الوعود. ومع استمرار الاحتلال وتوسّع المستوطنات، بدا واضحًا أن المقاومة ليست خيارًا عاطفيًا، بل نتيجة طبيعية لفشل السلام.
العدوان الإسرائيلي على غزة ليس حدثًا استثنائيًا، بل استمرارٌ لنمط متكرر في الأعوام 2008 و2014 و2021. الفرق الوحيد أن حرب هذه المرة طالت زمنًا وتوسعت جغرافيًا، ما ضاعف حجم المجازر، لكنه لم يغيّر في جوهر السياسات الإسرائيلية القائمة على القتل المنهجي والتدمير الشامل.
تُقدّم إسرائيل نفسها في موقع "المدافع"، لكن الواقع يقول إن العدوان لم يتوقف يومًا، سواء عبر الحصار القاتل لغزة أو الاغتيالات المنظمة، في ما يُعرف داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بسياسة "جزّ العشب"، أي الضربات الدورية لإضعاف المقاومة.
رغم انسحاب الجيش الإسرائيلي من داخل القطاع عام 2005، إلا أن الاحتلال مستمر بأدوات أخرى: حصار بري وبحري وجوي، وتحكّم كامل في المعابر والمياه والكهرباء. وبالتالي، فإن حق المقاومة في مواجهة المحتل يبقى مكفولًا في القانون الدولي واتفاقية جنيف (1948).
من الخطأ التعامل مع غزة كـ"كيان سيادي" يخوض حربًا ندًّا لندّ مع إسرائيل. فالمعادلة العسكرية غير متكافئة إطلاقًا: قطاع محاصر يصنع سلاحه بوسائل بدائية، في مواجهة جيش هو من الأقوى في العالم تسليحًا وتقنيةً. ما يجري ليس حربًا بين دولتين، بل عدوان من قوة احتلال ضد شعب محاصر.
يقول بعض المحللين إن المقاومة لم تُحسن التقدير السياسي، لكنّ الوقائع تُظهر أن نتنياهو نفسه كان يتجه نحو حربٍ لا مفرّ منها للهروب من أزماته الداخلية. والمقاومة، عبر عمليتها، استبقت العدوان الإسرائيلي الوشيك، لتفرض معادلة جديدة وتُحرج إسرائيل أمام نفسها والعالم.
بعد عامين من الحرب، يمكن القول إن القضية الفلسطينية استعادت زخمها العالمي بعد سنوات من التراجع، بينما تآكلت السردية الإسرائيلية التقليدية التي قامت على أسطورة "الدفاع عن النفس".
جيلٌ عالميّ جديد، هو جيل "زد" (Z)، بات يرى الصورة بوضوح أكبر: شعبٌ يُحاصر ويُقتل لأنه يطالب بحريته، ودولة احتلال تفقد شرعيتها الأخلاقية يومًا بعد يوم.
فقد كبرت فلسطين في عيون العالم، وبدأت إسرائيل تصغر في روايتها وفي صورتها، إلى أن يأتي اليوم الذي تقبل فيه ما كانت ترفضه لعقود.