“ليبانون ديبايت” - نوال نصر
وجد اللبنانيون الشيعة أنفسهم - شاءوا أم أبوا - في جمهورية حزب الله. منذ أربعين عاماً وأكثر، و”جمهورية الحزب” تكبر وتكبر متجاوزة كلّ ما هو تحت فلك “الدولة اللبنانية” الموقرة. و”رسالات” — التي ذاع صيتها في الأيام الأخيرة — لم تكن أول عنقود الانقضاض على قرارات رسمية كما لن تكون آخرها.
فالحزب استعدّ تماماً لتكريس وجوده باسم “المقاومة العسكرية” كما ظنّ أنه استعدّ اجتماعياً للانقضاض على أي قرار يراد به تقويض حضوره العسكري. باسم أبناء الطائفة أسس عشرات الجمعيات ونال لها “العلم والخبر” وها هو يتمترس خلفها معللاً خطواته ذات البعد “الاستقوائي” بأنها بحت ثقافية، اجتماعية، تعاونية، وإنسانية. فهل نصدق؟ هل أخطأ “الحزب” في ما أعدّ وأنجزّ لتكريس “مجتمعه المقاوم” على حساب وجود كل لبنان وكل اللبنانيين الآخرين؟ ها هو الحزب “يُجند” جمعياته الثقافية تحت وقع نشيد: “نحنا جنودك عالموت، طلبنا منموت، مطرح ما بدك منفوت”. فهل هكذا تُبنى المجتمعات الثقافية؟ هل يجوز تلقين الأطفال سيمفونيات الموت والاستشهاد تحت مسميات ثقافة؟ هل يجوز أن يكون هدف جمعية بيئية كما “أخضر بلا حدود” تفخيخ الأرض لتعبيد فكرة المقاومة؟ هل معقول أن يكون هدف مدارس المهدي تفخيخ عقول الأطفال بمفاهيم فيها كثير كثير من استشعار الموت؟ هل يجوز أن تتحرك جهاد البناء باسم البناء في المناطق “الرخوة” لتجعل من المهمشين “القوة المعطلة” لأي قرار لا ينسجم مع قرارات “الحرس الثوري الإيراني”؟ مؤسسات “الحزب” الاجتماعية لم تبنَ إلا لتدفع بالعسكرة إلى الأمام “فالكلّ الكلّ - أفراد وأشياء - في خدمة الهدف”. والهدف: الانتصار ولو من باب الإنكار!
الأمور تغيّرت. الثابت الوحيد في هذه الحياة هو التغيير. وما اعتقده حزب الله من مسائل ثابتة، أبدية، سرمدية، أصبحت - بدون لفّ ودوران - شبه منتهية. لكن، وكما يقال، أصعب الأمور آخرها. و”الحزب” الذي بنى أمبراطورية شعارها: “فإن حزب الله هم الغالبون” لن يتقبّل تسليم السلاح والتسليم بالهزيمة. لذا، سيستل، من بنك ما وفره من أذرع تحت مسميات جمعيات، أدواته للعبث.
في كل “عرس” لتلك الجمعيات التي بناها حزب الله “قرص”. قبل 19 عاماً، في العام 2006 بالتحديد، نالت الجمعية اللبنانية للفنون - رسالات العلم والخبر - بهدف نشر ثقافة الفن الملتزم، رافعة شعار: صوتٌ يحمل الفكرة ولحنٌ يسكن القلب. عملت رسالات تحت عنوان: “السلاح هو كرامتنا”.
وآخر أفلامها كان “سيد الحرب” الذي ضمنته بدايات تأسيس القوة الصاروخية الإيرانية و”الانتصارات” التي قالت عنها “نتاج تلك البدايات”. أفلام وسيناريوهات ولوحات مرسومة ومغناة كلها تتحدث عن انتصارات واهية متوجهة في غالبيتها، “باسم الثقافة”، نحو أطفال يكبرون ولعبتهم كما شخصيات “وولينا” و”لوبيتو” في أفلام الجمعية: الصاروخ والبندقية والعسكرة و”كرمال نفرح نقدم شهداء”. يبدو أن “الحزب” أدرك بعد حرب 2006 أن واحدة من قدراته تكون غسل أدمغة الأطفال. فراح يشركهم في لعبته ليكبروا في عسكره. هو فعل ما فعل معللاً: “من الخطأ أن نظن بأن يكون الفن لأجل الفن بل هو في خدمة هدف… فنحن لا نصنع مسرحاً لنثبت أننا لاحقون بركب المدنية بل لأننا نريد تغيير عقلية وتعميق وعي”. هكذا صار. جنب صخرة الروشة تمت “رسالات” رسالتها.
أطفال — يحسبون ضمن البيئة الشيعية — يكبرون وهم يتابعون سيرة مؤسس صناعة الصواريخ الإيرانية المعروف بـ “أبو الصواريخ”. إنهم ينمون على وقع تبرير وجود السلاح. تحت مسمى الثقافة، نراهم يقرأون: “وأنا أيضاً سأكون الحاج قاسم”. في مضمونه: “أحب الحاج قاسم (سليماني) لأنه مبتسم دائماً لكنه عبوس عندما يواجه العدو، الذي إذا هاجم بلدي سأقاتله بسلاحي، وسأركب الدبابة وأقضي عليه، وسأعترض زوارقه في البحر بزورقي السريع”.
بربكم، بماذا قد يحلم طفل يُقرأ له قبل أن ينام قصة الحاج قاسم؟ هل مسموح في دويلة “الحزب” القول: اسحبوا هذا الكتاب من المكتبات؟
“الحزب” بنى مؤسسات وأسس جمعيات على مدّ العين والأهداف. أنشأها ليتكئ عليها. وما أحوجه اليوم إليها. “جهاد البناء”، جمعية ذاع صيتها، تأسست العام 1995 لتعنى - على ذمتها - بالبنى التحتية وتعيد الإعمار وتبني. هي والعسكر توأم: “نبني ونحمي”. والهدف من وجودها على لسان من فيها: معاً يتكامل العطاءين “الجهاد والبناء”.
كل ما أنشأه “الحزب” يصبّ، في النهاية، في خدمة العسكرة. و”جهاد البناء” أصبح لها - ذات يوم - أخوة وأخوات في سوريا والعراق. هناك، في سوريا، طالما تحدث الخبراء عن نشاط جهاد البناء “المشبوه” تحت ستار زراعي، أما المخطط الأبعد فكان خلق طبقة موالية لإيران قوامها فقراء سوريا. انتهت طموحات حزب الله في سوريا مع هروب بشار الأسد. فماذا عن حضور المؤسسة في لبنان؟ إنها بحجم دول - لا دولة لبنان وحسب. إنها المؤسسة المدنية للحرس الثوري الإيراني. يعمل فيها خمسة آلاف موظف ولديها 853 مؤسسة وتتعاون مع 5000 مقاول وتاجر. في المحصلة، جهاد البناء صُنعت لتبحث في الدول الهشة الرخوة المحيطة عن أكثر الناس تهميشاً، جاعلة منهم “القوة المعطلة” لأي قرار لا ينسجم مع قرار “الحرس الثوري الإيراني”. نعم، حين كان السيد حسن نصرالله يطل متحدثاً عن المقاومة بالزراعة والموز والخس والبقدونس والبندورة كان يقصد “جهاد البناء” فهي التي تحمي وتبني وتزرع و… ولها دور في الحرب، وفي السلم عليها أن تستعد للحرب.
المؤسسات “الاجتماعية والإنسانية والثقافية والاقتصادية” التي أنشأها “الحزب” لغايات في نفس يعقوب كثيرة. “القرض الحسن” جمعية. أتتصورون؟ مصرفٌ يبيع ويشتري ويهندس “مالية” ويرهن ويمنح القروض هو مجرد جمعية. تفاصيل تفاصيل تكاد لا تنتهي حول وجود جمعية أشبه بمصرفٍ في دويلة في قلب الدولة. لكن، على من تقرأ مزاميرك يا يعقوب. فما يريده “الحزب” - كان - يصير. و”كان” كلمة لا يحب سماعها “الحزب” الذي يؤمن أن ما يريده: يكون ويكون ويدوم.
الأخضر طبعاً هو لون جميل. إنه رمز الخير والأمل والهدوء والسعادة. لكن، ماذا عن جمعية “أخضر بلا حدود”؟ عوقبت الجمعية من الولايات المتحدة الأميركية بتهمة دعم وتغطية نشاطات “الحزب” في الجنوب. مع العلم أنها سبق ونالت العلم والخبر بهدف الحفاظ على المساحات الطبيعية وزراعة الأشجار. لكن شتان ما بين المعلن والخفي. كنا لنقول ما لنا و”للأمريكان” وندافع عن “أخضر بلا حدود” لكن التجارب التي عاشها لبنانيون مع الجمعية كانت مرة. في التفاصيل، انطلقت الجمعية باسم البيئة، بموجب علم وخبر، لكنها راحت تعبث في المناطق الحدودية، خصوصاً المسيحية، نشاطها تركز، خصوصاً في المناطق المسيحية، قضمت أراضٍ. قطعت أشجار السنديان المعمّر. بنت أنفاق تحت الأرض. وضغطت على الأهالي للتوقيع على سندات إيجار تُمكّن أفرادها من أن يتصرفوا بحرية أكبر. وراح عناصرها يسرحون في الأرجاء مستخدمين آليات بلا أرقام من نوع تاكوما رباعية الدفع. كل هذا لربط مواقعهم ببعضها البعض ومراقبة ما يحصل خلف الشريط. لا، لا، تجربة “أخضر بلا حدود” كان لا بدّ بمنطوق كثير من أهل الأرض من وضع حدّ لها.
ما لنا ولها. فلنتابع. يومياً تولد جمعية - أو مشروع جمعية - تتبع “الحزب”. “وتعاونوا” واحدة من الجمعيات التي أنشئت ضمن مشروع “الوجه الحسن” - نعم، الوجه الحسن لا القرض الحسن - ومن خلالها يتم اليوم توزيع المساعدات والبيوت الجاهزة في الجنوب، كما نُقلت مرضى إلى الجمهورية الإسلامية في إيران. علياء الزين التي تعاني من تشمع في الكبد انتقلت قبل حين إلى هناك. لؤي سعادة غادر أيضاً إلى إيران ومثلهما حيدر الفيتروني… الرابط بين بيئة الحزب وإيران يستمر وثيقاً “صحياً”، غير أن تقارير صدرت تقول: “وتعاونوا ذراع مدنية لحزب الله تعمل حالياً على إعادة تمويه نشاطات “الحزب” العسكرية والاستخباراتية في الجنوب. إنها تلعب الدور الذي كانت تؤديه “أخضر بلا حدود”.
الجمعيات التابعة للحزب تولد “غبّ الطلب”. وهو الذي بدأ منذ فترة بعيدة يلعب “عالم مكشوف” محصناً، بلا فيدرالية معلنة، بيئته. تغيرت المعادلة، تساقطت أوراق كثيرة، لكن “الحزب” ما زال متسمراً هناك. امتلك أمر البلاد والعباد ومؤسسات لا تُعدّ ولا تُحصى. أطلق مع بطاقاته الحزبية بطاقات تموينية “نور” و”سجاد” ومخابز الوفاء وحلويات الإخلاص ومحطات الأيتام ومخازن النور. هو اهتمّ بالمجتمع ليحمي فكرة المقاومة. أسس كشافة الإمام المهدي التي خرّجت مئات الشباب الذين استشهدوا بين بيروت ودمشق. نموذج مدارس المهدي التي أنشأها أيضاً حاول نقلها إلى كسروان، إلى مدرسة “الحبل بلا دنس” في منطقة “غبالة” في كسروان - على سبيل المثال لا الحصر طبعاً - من خلال حشو رؤوس الأطفال وغسلها بمفاهيم “المقاومة الإسلامية” التي أقحمت البلاد والعباد في حروبٍ طالما نادت كسروان بوجوب البقاء في منأى عنها. نعم، هناك مناهج أسسها “الحزب” تضع في مفهوم الأطفال أن من يحمي الوطن هم رجال المقاومة.
ليس هيناً أبداً تعداد الجمعيات التي أسسها الحزب. هي أكثر بكثير مما قد تظنون. وطالما حاول “الحزب”، في عزّ جبروته، فرض ما يراه ويريده على الآخرين من خلالها. أما اليوم، فهو سيحاول استعادة الأمر الواقع - الذي كان - من خلال تحريكها. هذا طبيعي لأن هذا هو هدفها منها منذ البدء. فالجمعيات في خدمة الناس والناس في خدمة المقاومة العسكرية. هكذا يريد ويرى وسمعنا.
الشيعة أهل لبنان. في “رسالات” يعلمونهم اليوم تاريخ الشيعة ومهدها. نحن نعرف أن الشيعة هم الشركاء والأصدقاء والأحباء. ولن تقوم قائمة لا لهم ولا لنا إلا بالتمييز بين الشيعة - الذين أغرقوا بعشرات الجمعيات التي وضعت تحت خدمتهم “لهدفٍ” - وبين الحزب الذي لا يزال، بعد كل ما حصل في غزة وانتهى إلى “اتفاق”، لا يرى حلاً إلا بسلاحه.
حزب الله طالما سعى إلى الاستقواء على كل الآخرين. في بيروت والمتحف وعين الرمانة ورميش وفي عيون السيمان أيضاً. هو بحجة تدشين واحدة من جمعياته بئر ارتوازي نشر ذات يوم عسكره لكن مسيحيو الجرد ردعوه. هو حاول قضم البلد وبلعه وهضمه. لكن ليس كل ما يشتهيه الحزب يدركه. هو اليوم مأزوم - والبلد بأسره كذلك - فهل يعي قبل فوات الأوان أن ليس بالعسكر وليس بعسكرة الجمعيات الإنسانية والاجتماعية يخدم بيئته والوطن؟