"ليبانون ديبايت"- عبد الله قمح
باغت رئيس الجمهورية جوزاف عون الجميع بدعوته إلى تفاوض غير مباشر مع إسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأميركية. الدعوة التي أتت من خارج سياق النقاشات الدائرة في بيروت، وفق معلومات "ليبانون ديبايت"، لم تكن نتيجة تنسيق داخلي، بل جاءت كـ"مبادرة" من الرئيس نفسه للحؤول دون ما يصفه فريقه بـ"المسار السيئ الذي قد ينزلق إليه لبنان".
تزداد المعطيات التي ينقلها دبلوماسيون عرب وأجانب إلى بيروت وتُظهر خشية متنامية من تصعيد إسرائيلي محتمل. وإلى جانب ذلك، تؤكد تقارير أخرى أن الستاتيكو الراهن في لبنان سيبقى كما هو، أي أن الاحتلال مستمر، ولا وقف للطائرات المسيّرة أو الاغتيالات أو الغارات. بالتزامن، ينقل زوّار أكثر من مرجعية، أن معلومات وصلت إلى بيروت تُفيد بأن ما قد يُملى على لبنان في الأشهر المقبلة سيكون أكثر صعوبة مما هو مطروح اليوم، في ظل ما تعتبره دوائر خارجية "تلكؤاً لبنانياً" في معالجة أسباب عدم تجدد الحرب"، في إشارة إلى وضعية سلاح المقاومة.
من هذا المنطلق، يرى عون أنه خطا خطوة إلى الأمام عبر طرح فكرة المفاوضات غير المباشرة بصيغتها "الجوالة" التي سبق أن اعتمدها المبعوث الأميركي السابق عاموس هوكشتاين، والتي أفضت عام 2022 إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
غير أن الظروف الراهنة تختلف جذرياً عن تلك التي كانت سائدة في ذلك الحين. فـالتوازن الذي حكم مفاوضات 2022 لم يعد قائماً اليوم، والميزان يميل بوضوح لمصلحة إسرائيل.
رسالة إلى الداخل والخارج
دعوة الرئيس، عملياً، تعني محاولة لإدخال لبنان في مسار التسويات الإقليمية الجارية، وتذكيراً بأن بيروت سبق أن فاوضت تل أبيب برعاية أميركية. وهي دعوة موجهة إلى الداخل والخارج في آن.
ففي البعد الداخلي، يذكّر الرئيس بأن التفاوض غير المباشر ليس محرماً متى كان هدفه تحرير الأرض ووقف الاعتداءات، مستنداً إلى سابقتي اتفاق الترسيم البحري عام 2022 واتفاق 27 تشرين الثاني الماضي الذي أفضى إلى إنهاء الحرب – من جانب واحد طبعاً.
أما في البعد الخارجي، فقد تزامن "إعلان بعبدا" الجديد مع انعقاد فعالية "السلام في الشرق الأوسط" في شرم الشيخ برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبحضور ممثلي 31 دولة. ورغم أن لبنان لم يُدعَ إلى القمة، إلا أنه حاول إيصال "برنامجه" من خلال هذا الإعلان، موجهاً رسالة إلى منظّمي القمة بأنه مستعد للانخراط في المسار، لكن وفق رؤية بيروت، محاولاً التخفيف من أي طرح مستقبلي!
لكن خلف هذا الإعلان تكمن قضية أعمق دفعت رئيس الجمهورية إلى اعتماد هذا الخيار، وفق ما ينقل زواره.
"مناورة لبنانية"
ينقل زوّار مرجعيات إن الصروح عامةً والقصر خاصة، يعيش خشية حقيقية من أن تأتي أي تسوية إقليمية على حساب لبنان. لذلك، أراد الرئيس عون أن يكون "صاحب فكرة لا متلقّي فكرة"، في محاولة لتفادي فرض تسوية عليه تضيق فيها هوامش المناورة.
من هنا طرح جوزاف عون فكرة الاستعداد للتفاوض غير المباشر، وليس المباشر، كما كان مقترحاً في بعض المبادرات التي وصلت إلى بعبدا سابقاً.
يُدرك القصر الجمهوري عجز لبنان عن تعديل أي مسار مفروض عليه. إذ تعتبر بعبدا أن بيروت اليوم "في وضع هشّ دبلوماسياً، وفاقدة القدرة على ضبط التنازلات أو تحسين شروط التفاوض"، لغياب القوة العسكرية الرادعة القادرة على خلق توازن ميداني والتي جعلت لبنان يقع في فراغ. وهو وضع يختلف تماماً عن مرحلة 2022 حين أدخل حزب الله، بأمر من أمينه العام الشهيد السيد حسن نصرالله، طائرة مسيّرة حلّقت فوق حقل كاريش، ما فرض حينها معادلة مختلفة.
بصمات مورغان أورتاغوس
أكثر ما يثير القلق في بيروت، أن تتزامن المرحلة المقبلة، مع وصول السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى إلى بيروت، مع طرح مقاربات مختلفة تتجاوز اتفاقية 27/11 نحو اتفاق جديد قد يتخطى البنود التي وضعها المبعوث السابق توم برّاك. وتؤكد مصادر مطلعة أن ما يُنشر حول احتمال تعديل الاتفاق بصيغة مشابهة لما إعتمد في غزّة أو سيُعتمد مع دمشق (ترتيبات أمنية) ليس بعيداً عما يُسرّب من واشنطن.
من أبرز المؤشرات على جدية المرحلة المقبلة، الدور المتنامي لمورغان أورتاغوس في تقديم الإحاطات إلى السفير الأميركي الجديد. وهي دشّنت حضورها الجديد بدعوة عيسى إلى حفل عشاء تعمّدت على إثره إصدار موقف ظهرت من خلاله أنها منغمسة في المسار إلى حدوده القصوى. أساساً، تشكل مورغان أورتاغوس عنصراً محورياً في الملف الشرق أوسطي، سواء من موقعها الحالي داخل البعثة الأميركية في الأمم المتحدة أو ضمن فريق المبعوث ستيف ويتكوف، وتحظى بثقة البيت الأبيض حيث سمح ترامب بتسميتها شخصياً لدور في لبنان.
بدأت بصمات أورتاغوس تظهر بالفعل على أداء السفير ميشال عيسى، الذي سيتسلّم مهامه في بيروت أواخر الشهر الجاري، على أن تتولى إلى جانبه ملفات حساسة مرتبطة بإدارة ما يسمى في واشنطن "مشروع العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية". والأهم أن عيسى، القادم من خارج السلك الدبلوماسي التقليدي والمكلّف شخصياً من ترامب، يحمل أفكاراً جديدة حول إدارة هذا الملف، فيما يعني وجود أورتاغوس إلى جانبه إعادة تفعيل نمط "التفاوض عبر اللجان" الذي يقضي بأن تتولى كل لجنة ملفاً محدداً.
وعليه، قد يكون جوزاف عون يحاول المناورة بعكس التيار، لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يستطيع النجاح في ظل فتور الموقف الأميركي تجاهه؟ وأين يقف حزب الله من إعادة تنشيط "المفاوضات الجوالة" في ظرف يختلف جذرياً عن عام 2022؟ والأهم، هل تقبل واشنطن أساساً بصيغة تفاوض غير مباشرة في زمن باتت فيه المقاربة الأميركية تفضّل الحوار المباشر مع تل أبيب؟