تؤكد مصادر سياسية مطّلعة عبر “ليبانون ديبايت” أنّ الملف التفاوضي بين لبنان وإسرائيل عاد إلى الواجهة بقوة في الأيام الأخيرة، مدفوعاً بجملة تطوراتٍ إقليمية وضغوطٍ أميركية متزايدة، تتقاطع جميعها عند عنوانٍ واحد، هو فرض التفاوض لمنع الحرب. وتشير المصادر إلى أنّ الحراك السياسي الداخلي، الذي بدأ باجتماعاتٍ أجراها رئيس الحكومة مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي، استُكمل أمس بلقاءٍ جمع رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو ما تراه المصادر يعكس إدراكاً لبنانياً واضحاً بأنّ البلاد تقف على عتبة مرحلةٍ حساسة لا تحتمل المجازفة، وأنّ أي قرارٍ في هذا الاتجاه يجب أن يُتخذ بإجماعٍ وطني كامل، بسبب قلّة أوراق القوة التي يمتلكها لبنان في التفاوض.
بعد لقاء عون وبري، تكشف المصادر أنّ جوهر النقاش الدائر حالياً لا يتعلق بمبدأ التفاوض بحدّ ذاته، بل بشكله ومن ثم مضمونه، فلبنان، الذي يرفض الانجرار إلى مواجهةٍ عسكريةٍ شاملة، يسعى إلى ضبط ساحته عبر مقاربةٍ دبلوماسيةٍ تضمن حقوقه. لذلك يجري التداول بين الرئاسات حول صيغة المفاوضات غير المباشرة، وإمكانية أن تُدار ضمن الأطر القائمة، كتلك التي تُنسّق عبر “لجنة الميكانيزم”، من دون فتح قنواتٍ جديدة. علماً أنّ هناك رأياً في لبنان يقول إنّ هذه الرؤية لن تستقيم مع الأهداف الأميركية، التي سبق أن طرحت تشكيل لجانٍ تفاوضيةٍ إلى جانب لجنة “الميكانيزم” لا ضمنها.
وتكشف المصادر أنّ الموقف اللبناني يقوم على قاعدة الانفتاح المشروط على التفاوض والحلول السياسية، والتمسك في الوقت نفسه بمحاولة منع إسرائيل من فرض شروطها بالقوة. فلبنان، وإن أبدى استعداداً لدراسة المبادرة التي حملها الأميركيون، لن يدخل أي مسارٍ تفاوضي قبل توافر ضماناتٍ جدّيةٍ لوقف العدوان وضمان احترام القرار 1701 بآلياته كافة. وتضيف أنّ عون وبري يدركان أنّ إسرائيل تُريد تخطي القرار 1701، ولا تُريد تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، ولكنهما يعتبران أنّ الموافقة اللبنانية ترمي الكرة في الملعب الأميركي، على اعتبار أنّ لبنان تجاوب، والمشكلة في إسرائيل، تماماً كما حصل عند طرح الورقة الأميركية.
وفي موازاة ذلك، لا تُخفي المصادر أنّ الضغوط الأميركية بلغت مستوى غير مسبوق، خصوصاً بعد تصريحات الموفد الأميركي توم باراك، الذي لوّح بأنّ الوقت ينفد أمام بيروت، وبأنّ عدم التحرّك سيؤدي إلى مواجهةٍ حتميةٍ مع إسرائيل. هذا التصعيد، وفق المصادر، يُقرأ في سياق محاولة دفع لبنان نحو التفاوض تحت وطأة الخوف من الحرب والعقوبات، لا انطلاقاً من رغبةٍ حقيقيةٍ في دعم الاستقرار.
اللافت أنّ هذه التطورات تأتي على وقع اتصالاتٍ داخليةٍ مكثفة، هدفها توحيد الموقف اللبناني قبل انعقاد جلسة الحكومة المقبلة. فالاتجاه العام هو نحو بلورة موقفٍ رسميٍ واحدٍ يجمع بين الرئاسات الثلاث، لتحديد سقف المفاوضات وأولوياتها، وتفادي أي انقسامٍ داخلي يمكن أن يُستغلّ خارجياً. لكن، بحسب المصادر، هناك مخاوف من أن تكون المواقف اليوم مشابهةً لتلك التي سبقت وصول الورقة الأميركية إلى لبنان، فالكل كان مجمعاً على الأولويات قبل أن ينقلب البعض عليها، ونصل إلى جلسة 5 آب الحكومية التي اتُّخذ فيها قرار حصر السلاح دون أي اعتبارٍ للاحتلال الإسرائيلي.
وتضيف المصادر أنّ بري يعلم رغبة البعض في لبنان بالدخول في مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع العدو الإسرائيلي، ورغبتهم في السلام ولو كان على حساب الجنوب اللبناني، لكنه، إلى جانب حزب الله، يُقارب المسألة من خلال اعتماد “فن الممكن”، علّ لبنان يكسب المزيد من الوقت ريثما تتضح خواتيم ما يجري بين أميركا وإيران. لذلك لم يُعارض بري مسألة التفاوض غير المباشر، رغم ما يطرحه من علامات استفهامٍ حول “على ماذا نفاوض؟” و”ماذا تُريد إسرائيل من التفاوض؟” و”ماذا يُريد لبنان وماذا تُريد الإدارة الأميركية؟”.
وبحسب المصادر، فإنّ ما يُريده لبنان هو تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، وتثبيت الحدود، والوصول إلى تسويةٍ أمنيةٍ تضمن هدنةً طويلةً شبيهةً بهدنة عام 1949، وهو بعيد كل البعد عمّا تُريده إسرائيل التي تسعى إلى توسيع مساحتها الجغرافية وبناء مناطق عازلة، على غرار ما تحاول القيام به في سوريا. لذلك قد لا يناسبها التفاوض في المرحلة الراهنة سوى بشكله، أي جلوسها مع لبنان على طاولةٍ واحدةٍ تمهيداً لتطبيعٍ مستقبليٍ بشروطٍ تضعها هي.
من هنا، تؤكد المصادر أنّ لبنان سيطرح الموافقة على التفاوض في حال تمكنت الولايات المتحدة من إثبات النوايا الإسرائيلية التفاوضية. فلبنان يعيش اليوم مرحلةً دقيقةً تتقاطع فيها رسائل واشنطن مع التصعيد الإسرائيلي على الأرض، سواء عبر الغارات المتكرّرة أو عمليات الاغتيال والاستهداف الممنهج للبنى المدنية. وهذا الواقع يفرض على الدولة اللبنانية السير بين خطوط النار، بحيث تُبقي الباب مفتوحاً أمام الحلول الدبلوماسية من دون التخلّي عن حقّها في الدفاع عن نفسها، وفي الوقت نفسه تحاول عدم الوقوع في فخّ الصدام الداخلي.