"ليبانون ديبايت" - محمد علوش
المشهد اللبناني الراهن يضع واشنطن أمام اختبارٍ سياسي معقّد. فالمعركة الانتخابية المقبلة، رغم ما يُضخّ فيها من اهتمام وضغوط، لا تطال فعليًا أكثر من 30 إلى 35 مقعدًا يمكن أن تشهد تنافسًا فعليًا بين القوى المتقابلة، فيما تبقى باقي المقاعد محكومة بتوازنات طائفية وسياسية يصعب اختراقها. بمعنى آخر، لا تبدو صناديق الاقتراع قادرة على إحداث التحوّل البنيوي الذي تراهن عليه واشنطن لإعادة تشكيل ميزان القوى الداخلي في لبنان.
منذ أشهر، تربط واشنطن بين إجراء الانتخابات وإحداث تغيير في موازين القوى عبر إضعاف تمثيل محور المقاومة داخل البرلمان، وتوسيع حضور القوى المحسوبة على الغرب أو تلك التي يمكن أن تشكّل بيئة سياسية مرنة تجاه المطالب الأميركية. إلا أن الواقع الانتخابي الذي أفرزته التجارب السابقة، وخصوصًا في الدورة البلدية الأخيرة، أظهر بوضوح أن الثنائي الشيعي يملك قاعدة شعبية متماسكة بل ومتقدمة مقارنة بانتخابات سابقة، وأن أي محاولة لتقليص حجمه داخل المؤسسات عبر الصندوق ستصطدم بجدار الواقع الديموغرافي والسياسي.
إضافة إلى ذلك، ترى مصادر نيابية معنية أن إلغاء تصويت المغتربين يشكّل عنصرًا مقلقًا للولايات المتحدة، إذ كان التعويل على أصوات الخارج أحد أبرز أدوات الضغط السياسي لتعديل نتائج الداخل. غير أن هذا الخيار قد لا يكون متاحًا الآن، إذ تكشف المصادر أن التوجّه نحو إلغاء انتخابات المغتربين بات أقرب إلى التحقق، وباتفاق القوى السياسية الوازنة التي لا تزال تتحدث في الإعلام بلغة لا تعكس الواقع. وترى المصادر أن هذا المتغيّر يُضعف فرضية التغيير عبر المسار الانتخابي، ويجعل واشنطن في موقع من يبحث عن بدائل غير انتخابية لفرض وقائع جديدة في لبنان.
من هنا، يمكن تفسير تصاعد الخطاب الأميركي الأخير حول ضرورة “ضبط السلاح” وإجراء الانتخابات في بيئة “خالية من التأثير المسلّح”. هذا الخطاب ليس تقنيًا أو قانونيًا بقدر ما هو سياسي بحت، يهدف إلى تهيئة الأرضية لحجّة تقول إن الانتخابات تحت ظل السلاح لن تكون معبّرة عن الإرادة الحقيقية للبنانيين، وبالتالي يمكن الطعن بنتائجها أو استخدامها لتبرير انتقال الضغط إلى مستويات أخرى.
في هذا الإطار، تكشف مصادر مطّلعة على المواقف في واشنطن عبر “ليبانون ديبايت”، أن الولايات المتحدة تعمل وفق مسارين متوازيين. الأول هو المسار السياسي – الدبلوماسي، من خلال تصعيد الضغوط الاقتصادية والمالية وربط المساعدات الدولية بنتائج الانتخابات وبتوجهات الحكومة المقبلة في ملف السلاح. هذا المسار يهدف إلى محاصرة لبنان الرسمي ودفعه نحو مواقف أكثر ليونة حيال المطالب الأميركية والإسرائيلية، خصوصًا في ما يتعلق بملف الحدود وسلاح المقاومة. وتضيف المصادر أن واشنطن تحظى في هذا الإطار بدعم عربي وازن، بعدما تمكنت من السيطرة الكاملة على قرار المساعدات العربية للبنان، وقرار إقامة مؤتمرات الدعم، سواء للجيش اللبناني أو لملف إعادة الإعمار.
أما المسار الثاني، فهو المسار الأمني – الميداني، الذي يقوم على تغطية خطوات إسرائيلية ميدانية ورفع مستوى التهديد العسكري لفرض واقع تفاوضي جديد. وتُشير المصادر إلى أن هذا الخيار لا يعني بالضرورة حربًا شاملة، ولا ينفي احتمال حصولها، لكنه قد يتجسد في تصعيد أو رسائل ميدانية تعيد فتح ملف السلاح من زاوية الضغط الخارجي بدل النقاش الداخلي، الذي لا ترى فيه بعض الجهات في واشنطن حلًا قابلًا للتطبيق بما يتعلق بسلاح المقاومة.
وتؤكد المصادر أن واشنطن تدرك أن التصعيد العسكري ليس خيارًا مضمون النتائج، لكنها في المقابل تعتبر أن استمرار الوضع الحالي من دون تغيير سياسي جذري يعني ترسيخ حضور المقاومة داخل الدولة والمجتمع، وهو ما تراه إخفاقًا استراتيجيًا طويل الأمد، ليس في لبنان فقط بل في كل مشروعها الإقليمي الذي يتطلب نزع سلاح المقاومة كشرط أساسي لنجاحه. لذلك، يصبح التصعيد وسيلة ضغط لا غاية نهائية، هدفه تحريك الجمود السياسي ودفع لبنان إلى طاولة تفاوض مباشر أوسع، سواء حول السلاح أو حول الترتيبات الإقليمية في المرحلة المقبلة.
أما في الحساب اللبناني الداخلي، فإن نتائج الانتخابات، مهما كانت نسبية، لن تتيح تشكيل سلطة قادرة على فرض أي مسار لنزع السلاح أو إعادة هيكلة التوازنات الداخلية، ما يعني أن الضغط الخارجي سيبقى هو العامل الحاسم. وبالتالي، يبقى السؤال مفتوحًا حول توقيت الانتقال من الضغط السياسي إلى الميداني، وحول مدى استعداد واشنطن لتحمّل تبعات مواجهة غير مضمونة النتائج في منطقة لم تعد فيها الحروب محدودة التأثير.
في المحصّلة، ترى المصادر أن واشنطن قد تجد نفسها أمام ثلاثة خيارات صعبة في المرحلة المقبلة: المضي بالمسار الانتخابي رغم محدودية نتائجه، أو تصعيد الضغوط الاقتصادية والسياسية لإحداث اختراق من الداخل، أو دعم تصعيد عسكري تديره إسرائيل بالنيابة عنها لإعادة فرض معادلات جديدة بالقوة، مع وجود احتمال بأن تسير بالخيارات الثلاثة بالتوازي.