المحلية

نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت
الأحد 09 تشرين الثاني 2025 - 07:16 ليبانون ديبايت
نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت

الأهالي والجلجلة… هكذا يستعدّ مسيحيو الشريط الحدودي لأيامٍ سوداء آتية

الأهالي والجلجلة… هكذا يستعدّ مسيحيو الشريط الحدودي لأيامٍ سوداء آتية

"ليبانون ديبايت" - نوال نصر


وها هو عمر أهل الشريط الجنوبي يمضي في جلجلة تكاد لا تنتهي. ها هم أهالي رميش وعين إبل ودبل والقليعة وعلما الشعب والقوزح يُتركون – من جديد – لحالهم، لقدرٍ مجهول، لعذابٍ وقهرٍ وانتظار طويل ممل، مرة من دولة متخاذلة، ومرات بدافع وجودهم في جغرافيا قرارها ليس بيدها، ورهان من يسيطرون عليها ليس على الدولة، وتطلعاتهم أبعد من حدود لبنان. هي قرى لبنانية نائية، مسيحية في التقسيم الطائفي، لكن لبنانية جدًا في الممارسة والهوية. عقودٌ من الإهمال والنسيان واللامبالاة مرّت وما زال هؤلاء يأملون بغدٍ أفضل. لكن، متى يأتي هذا اليوم؟ في سبعينات القرن الماضي تركتهم الدولة رهينة وفرّت، وفي 2000 ظنوا أنهم عادوا إلى كنف الدولة لكن الدولة لم تعد إليهم. وفي 2023 عانوا الأمرّين من حرب إسناد شرّعت عليهم الطامة الكبرى. انتهت الحرب باتفاق “مبهم” التفاصيل. وها هم في أواخر 2025 ينتظرون الآتي “الأسود” ويترقبون. فلنذهب إلى هناك. فلنسأل أهالي الشريط عن أحوالهم ومعاناتهم وقدرتهم على الصمود بعد وبعد وبعد. تحقيق في البلدات المسيحية، ما بعد بعد الليطاني، على طول الشريط الحدودي الفاصل عن الخط الذي كان مسمى أزرق.

الطريق إلى الشريط الجنوبي سالكة. الطرقات في قرى الشريط هادئة. ووحدها نسمات “تشارين” تهب محدثة جلبة. نسير مزودين بدعوات أهل القرى الحدودية: “مار شربل والقديسون يرافقوكم”. صور صور صور… ودولة الرئيس نبيه بري يحصد العدد الأكبر منها. وآرمات تتكرر تحدد المسافة بين القرى اللبنانية والقدس.


وجود الثياب المرقطة، ثياب الجيش اللبناني، يمنحنا أمانًا. الحواجز قليلة لكن 90 في المئة من أبناء بلدات مسيحية كثيرة على طول الشريط ينتمون إلى مؤسسة الجيش اللبناني. نصل إلى رميش التي شاء القدر أن يجعلها جارة فلسطين. سكونٌ كبير في المكان. مسيحيو رميش أبوا مغادرتها. لكنهم، بحسب ما أخبرنا كابي الحاج أحد شباب البلدة الباسلين، غير مرتاحين ويخشون من تجدد الحرب “إنهم يحاولون بقدر ما تتيح لهم الظروف تخزين الطحين والمياه والمازوت”. المدارس تجهزت أيضًا في حال تجدد اشتعال فتيل الحرب لتحويل الدروس “أونلاين”. العلم نور. ولا شيء، لا شيء أبدًا، يفترض أن يمنع طلاب رميش من رسم أحلامهم ومتابعتها. فهم سلبوا من مقدرات كثيرة ووحده العلم سيكون ذخيرتهم للأيام المقبلة حتى ولو كانت الأقساط “نار”.


ثلاثة بيوت تضررت جزئيًا في رميش في الحرب الأخيرة أعيد ترميمها. كاريتاس موجودة دائمًا فوق، ومنظمة مالطا أيضًا. يتحدث الرمشاويون عن هاتين الجمعيتين ويسهبون “لولاهما لكانت الحياة أكثر صعوبة”. هكذا يحاول أهل البلدة والبلدات المجاورة متابعة العيش خدماتيًا. البلدية أيضًا موجودة ويوميًا تحدد المناطق التي توزع فيها المياه. ماذا عن جمعية “أخضر بلا حدود” التي كانت “تغزل” – باسم البيئة – في المنطقة، في ممتلكات الأهالي، في حين أن هدفها كان أبعد وولاؤها طالما حددته منشورات رئيسها زهير صبحي نحلة: حبي وولائي للقائد المرجع علي خامنئي؟ الولايات المتحدة الأميركية فرضت عليها عقوبات بتهمة دعم وتغطية نشاطات حزب الله. وقبل أسابيع ثلاثة – في السادس عشر من تشرين الماضي بالتحديد – أغارت إسرائيل عليها في منطقة مزرعة سيناي في قضاء النبطية في جنوب لبنان بينما كانت تعمل في سياق مشروعها. هي موجودة في الجنوب لكنها لم تعد قادرة أن تتحرك في رميش. فالبلدة أصبحت مكشوفة أمنيًا بالكامل. طائرات العدو الاستطلاعية تكاد لا تغيب عن سماعها. أصبح هدير “أم ك” ملازمًا فوق سكانٍ يحاولون الصمود.


ماذا عن جديد البلدة وما يحوطها من تلال؟ يجيب أحد أبنائها: “تمّت إعادة تركيب الجدار على الحدود كله ووضعت أعمدة الاستطلاع وما عاد الأهالي قادرين على الحراك في أي نقطة إلا تحت نظر من هم وراء الجدار، على مساحة 400 متر تقريبًا. وهذه السنة “حوشنا” الزيتون بمرافقة الجيش اللبناني واليونيفيل”.


في رميش منتجع يدعى Mountain Gate عادت إليه أخيرًا سيارات النقل المباشر وإعلاميون من محطتي الجزيرة والتلفزيون العربي. ويبعد الفندق عن الحدود نحو مئة متر “خط نار”. من هنا، نقلت الفضائيات الأحداث على طول الشريط. غادرت قبل عام يوم اتفق على وقف النار واليوم عادت. هو مشهدٌ آخر زاد خشية الأهالي من عودة الحرب المحتملة قريبًا. ندخل إلى موقع المنتجع الإلكتروني فنرى آخر “بوست” وضع وفيه يرقص جنديان من اليونيفيل ويهتفان: We love Mountain Gate. وبين محطات الحبّ خشية من موت يتجدد.


ماذا عن بلدة دبل المجاورة؟ يجيب الأب فادي فلفلي: “توالي الأخبار السيئة يؤثر علينا. لا استقرار هنا. والناس يخشون من الآتي. الناس يمونون أنفسهم. ونحن نحاول طمأنتهم وتشجيعهم على الاهتمام مجددًا بالزراعة. ومنزل المواطن سميح سعيد الذي قضى في الحرب الأخيرة مع اثنين من عائلته ما زال مهدّمًا”، ويستطرد الأب فلفلي: “أنا شخصيًا جمعت كل بقايا الصاروخ الذي قتل العائلة لكن لم أجد أي كتابة عليه للتأكد من مصدره بعدما تعددت القصص وتشعبت حول ذلك”.


كثير من الأهالي من البلدات الشيعية المجاورة يريدون استئجار بيوت في القرى المسيحية لكن لا بيوت للإيجار في دبل. هي بلدة صغيرة متواضعة. يقيم فيها حاليًا 3000 شخص، في رميش لا بيوت أيضًا للإيجار ويقيم فيها 7000 من أبنائها، بينهم أكثر من 1000 طالب. ومشكلة البلدات الحدودية أن لا مستشفيات قريبة في حال استجدّ شيء. هناك مستشفى غندور في بنت جبيل، على “صفّ الهوا”، يتحول في الحرب إلى مستشفى عسكري. أما المستشفى الأقرب الآخر فيقع في تبنين، أي يحتاج من يقصده من البلدتين الحدوديتين إلى قطع مسافة 25 دقيقة في السيارة.


يمرّ العمر ثقيلاً فوق، لكن تبقى الحياة أقوى من الخوف، بدليل أن رميش احتفت بخمسين عرسًا في صيف 2025. وهذه دلالة إلى أن لا أحد يملك حياة خالية من الحبّ، فالحياة بلا حب ليست حياة أصلًا.


عين إبل، تضمّ من جهتها 1500 نسمة، انخفض عددهم في الحرب الأخيرة إلى 120، واليوم عاد أكثر من نصفهم. هي تُشكل مع رميش ودبل ما يُشبه جغرافيًا المثلث. وحدها الأعلام اللبنانية وصور السيدة العذراء تظلل شبابيكها وأبوابها. تحاول بلديتها – مثل بلديتي دبل ورميش – تسهيل العيش فوق من خلال إقامة نشاطات آخرها نهار من الفرح في الأول من هذا الشهر. صوت الطيران الاستطلاعي يسيطر على أجوائها وأطفالها لا ينامون ليلًا من أصوات القذائف، لكن حين يستيقظون ويذهبون إلى مدارسهم ينشدون “كلنا للوطن للعلا للعلم”، رافعين الولاء، كل الولاء، إلى الجيش اللبناني وحده.


فلننتقل إلى علما الشعب. هي أكلت نصيبًا غير قليل من الحرب العشوائية الأخيرة. والعودة إليها، بحسب أحد أبنائها من آل حداد، “خجولة”. بيوتات كثيرة في أرجائها تستمر مهدّمة (86 بيتًا دمارًا كليًا و180 بيتًا أضرارًا شبه كلية). والمتوسطة الرسمية والثانوية الرسمية مقفلتان فيها. وحدها مدرسة الراهبات في علما فتحت أبوابها لكن عدد طلابها وأساتذتها قليل. لا كهرباء في البلدة إلا من خلال مجهود شخصي يتمثل بتركيب طاقة شمسية. لكن، من يجرؤ على ذلك في ظلّ كل هذا الصدى بالحرب الآتية؟ حياة سكان الشريط ليست أبدًا سهلة. أراضي الزيتون في علما حرقت وجرفت. وممنوع الانتقال إلى ما صمد منها بدون إذن. وأصوات القصف تصدح 24 على 24 ساعة. ماذا عن عدد من عادوا إلى علما الشعب؟ هؤلاء لا يزيدون عن 150 شخصًا من أصل 900 ومعظمهم من المتقاعدين وكبار السن.


نمر في دير ميماس والقوزح وننتقل إلى القليعة ومرجعيون. القوزح البلدة الصغيرة منهكة. ثمة مشاهد ومشاعر تتكرر: الانتظار المثقل بكثير من التوجسات من الآتي الكبير. لا سيارات “مفيمة” على الطرقات. فالشريط، كما كل لبنان، تحت “الرادار” الإسرائيلي. ويقول أحد أبناء الشريط: “كلنا مع لبنان خالٍ من أي احتلال، لكن وحده الجيش اللبناني يحمينا. فلتترك له المهمة الأمنية. يكفينا 50 عامًا من تردد الدولة عن حمايتنا. نحن لبنانيون ودولتنا يجب أن تسأل عنا ولا تتركنا لأهواء من هنا ومن هناك”.


نمر في جنبات القرى ذات الغلبة الشيعية. حالها يستمر “بالويل”. بيوتها على الأرض وناسها خارجها. الحالة “يا ناس” ليست بخير. والحرب الجديدة لن تكون مجرد نزهة. فهل ستحدث أم أن الإنذار بالويل والثبور وعظائم الأمور ليس إلا طنينًا من نوع الضرب على الطبول؟ من يسير في جنبات الشريط الحدودي ويسأل أهله يعلم أن شيئًا ما يُعدّ وراء الحدود. متى الانفجار؟ نعود أدراجنا إلى بيروت على وقع ضربات وغارات ما عادت تُعد وتُحصى. أليست هذه هي الحرب؟ ما دام العدو يضرب و”المقاومة” تلملم ضحاياها، فلتترك الأمر للدولة والجيش. هذا حقّ أهل الشريط. فليقل الجميع الحقّ ولو كان عليهم.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة