لكنّ ما يقوم به ليس نقدًا سياسيًا، بل أسلوبًا مدروسًا يُشبه ما تحدّث عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حين وصف بعض السياسيين بأنهم “يستخدمون الإعلام لتضخيم الذات وتقزيم الدولة، بدل بناء الثقة المتبادلة”. جعجع يمارس هذا النموذج بحذافيره: لسان معارض، وكرسيّ وزاري، وصناعة صورة لا تعتمد على ما هو حقيقي بل على ما يُمكن تسويقه لجمهوره.
الازدواجية هنا ليست تفصيلاً: جعجع ممثَّل في الحكومة بأكبر كتلة وزارية، ثم يخرج إلى الإعلام الأجنبي ليقول إن الحكومة كلها بلا إرادة سياسية. فإن كان ما يقوله صحيحًا، فلماذا يبقى وزراؤه داخلها؟ وإن كان يعتبر رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة عاجزَين، فلماذا لا يستقيل وزراؤه؟
منطق السياسة – كما قال الفيلسوف ألكسيس دو توكفيل – يقوم على “الوضوح بين الموقع والمسؤولية”. أمّا أن يكون السياسي “شريكًا في القرار وخصمًا له في آنٍ واحد”، فهذه ليست شجاعة، بل خديعة سياسية.
وبينما يُتهم رئيس الجمهورية بالبطء أو التردّد، يظهر في مواقفه ما هو أبعد من ذلك. الرئيس جوزاف عون يقدّم مقاربة تقوم على واقعية سياسية صلبة: الحرب ليست حلًا، ومنطق القوة لم يعد يجلب سوى الخراب، والبديل هو التفاوض والدبلوماسية، تمامًا كما قال هنري كيسنجر: “الحروب تبدأ عندما تفشل السياسة، وتنتهي عندما يعود العقل”.
هذا المنطق يتناقض مع ما حاول جعجع أن يرسّخه في مقابلته: تصوير الرئيس والحكومة كمتقاعسين، بينما الحقيقة أنّهما يتحركان ضمن حدود الواقع القاسي، لا ضمن رغبات المنابر الإعلامية.
ثم تأتي المفارقة الأكبر: نواب “الجمهورية القوية” أنفسهم يوجّهون إلى الحكومة سؤالًا رسميًا حول ملف سلاح المخيمات الفلسطينية، مستندين إلى قرارات اتخذتها رئاسة الجمهورية والحكومة في 5 و7 آب 2025. وهذا بحدّ ذاته اعتراف صريح بأنّ الدولة اتخذت القرارات، وأنّ المشكلة ليست في الإرادة بل في تنفيذ قرار أمني بالغ الحساسية.
هذا التناقض يُفسّره المفكر الإيطالي نيكولو ماكيافيللي حين يقول: “السياسي الذي يصنع خصمًا وهميًا يستطيع أن يصنع لنفسه بطولة وهمية”. جعجع يريد خصمًا دائمًا: مرة رئيس الجمهورية، مرة رئيس الحكومة، مرة الدولة بحدّ ذاتها. المهم أن يبقى هو “الوحيد الذي يرى”.
ويزداد المشهد وضوحًا عندما نقرأ العبارة الأخطر في كلام الرئيس عون: البعض يذهب إلى واشنطن “ليبخّ السمّ” على صورته وصورة الدولة.
الرئيس لا يذكر أسماء، لكنه يحدد السلوك: تشويه متعمّد يُرسل إلى الخارج ليعود طعنًا في الداخل.
وهذا السلوك ما وصفته هانّه أرندت يومًا بـ“السياسة القائمة على تدمير الثقة العامة، لا على بنائها”. فحين يفقد الناس ثقتهم بمؤسساتهم، يصبح الزعيم البديل – حتى لو كان هشًّا – أكثر جاذبية. وجعجع يعرف تمامًا كيف يزرع هذا الشك.
أما نواف سلام، فالرجل يقود حكومة محفوفة بالألغام، محاولًا خلق حدّ أدنى من التوازنات في لحظة إقليمية تنفجر فيها الخرائط يوميًا. لكنه يجد نفسه هدفًا لحملة تشكيك من داخل حكومته نفسها، وكأن المطلوب أن يتحمّل عبء الجميع بينما يسرق آخرون الإضاءة من فوق كتفه.
سلام لا يصرخ، ولا يفتعل البطولات الإعلامية، ولا يحمّل أحدًا مسؤولياته. لكنّ جعجع يريد أن يقدّم نفسه بديلًا عن كل شيء: عن رئيس الجمهورية، عن رئيس الحكومة، وعن الدولة.
إنّ ما يجري ليس خلافًا سياسيًا عاديًا، بل محاولة ممنهجة لخلخلة صورة الرئاسة والحكومة عبر هجمات إعلامية تنطلق من الخارج، تنسف فكرة التضامن الوزاري، وتضعف الثقة التي تحتاجها الدولة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وهنا بالذات يظهر المعنى الحقيقي لعبارة الرئيس عون: هناك من يدسّ السمّ.
السمّ لا يأتي على شكل اتهام مباشر، بل على شكل صورة تُبنى ببطء: الدولة ضعيفة، رئيسها عاجز، حكومتها بلا إرادة… فيما صاحب هذه السردية يجلس على الكرسي نفسه الذي ينتقده.
في السياسة، كما يقول توماس هوبز، “لا يمكن أن يكون الإنسان ملكًا ومعارضًا في الوقت نفسه”.
لكن جعجع يريد أن يكون الاثنان معًا:
في الحكم ليمسك النفوذ، وفي المعارضة ليصنع الشعبية، وفي الإعلام ليقدّم نفسه حكمًا على الجميع.
لكنّ هذه اللعبة خطرة. خطرة على الموقع الرئاسي، خطرة على موقع رئاسة الحكومة، وخطرة على ما تبقّى من هيبة الدولة. لأنّ ضرب رأس الدولة ليس بطولة… بل مغامرة قد تدفع البلاد ثمنها.
واللبنانيون يرون الفارق جيدًا بين من يعمل بصمت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبين من يدسّ السمّ في الوعي العام ليكبر هو في الصورة.