المحلية

نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت
الأحد 16 تشرين الثاني 2025 - 07:31 ليبانون ديبايت
نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت

عن “الحياد” و”النأي بالنفس” والعربية “العويصة” - ذبذبات وليد جنبلاط… إلى أين؟

عن “الحياد” و”النأي بالنفس” والعربية “العويصة” - ذبذبات وليد جنبلاط… إلى أين؟

"ليبانون ديبايت" - نوال نصر


النأي بالنفس في المعجم العربي معناه: الابتعاد، الاجتناب، التنزّه عن الشيء، الترفّع… أمّا الحياد فمعناه: عدم الانحياز، تحييد النفس، عدم الميل إلى أي طرف… في اللغة العربية “العويصة” الكلمتان تقتربان في التفسير كثيرًا، غير أن وليد بك جنبلاط هو مع النأي بالنفس وضدّ الحياد. ففسّروا هذا إذا استطعتم. صعبٌ؟ وليد جنبلاط – كما تعلمون – لا يُشبه سواه وله تفسيره: “النأي عن النفس هو عدم التدخل بشؤون الدول العربية أمّا الحياد فيرى فيه نظرية عبثية يتخلى فيها لبنان عن العداء لإسرائيل”. هو، كما دائمًا، ينقر على الحافة مرة ويضرب على المسمار مرة ثانية. وهذا ما عاد وكرره قبل يومين في تغريدة علّق فيها على طرح الحياد: “قبل أن نناشد الحياد ونعدّل الدستور مهلاً أيها السادة، فهل إسرائيل ستخرج من الأراضي المحتلة، وهل من المفيد الخروج من المحيط العربي والتخلي عن مبدأ الأرض مقابل السلام؟”. قال “البيك” ما قال قبل أن يعود وينهمك في قراءة الكتب المكدّسة في مكتبته محددًا بوصلة المرحلة الجديدة. فعلام يراهن ابن المختارة الذي يكاد ينتهي من كتابة مذكّراته؟ وهل “أنتيناته” ما زالت تلتقط الإشارات “صحّ” كما من قبل؟


حين يتكلم “البيك” ينصت – كي لا نقول يصمت – غالبية أهل الجبل، حتى الابن، وريث الزعامة، تيمور. فهو العارف بمضامين الأمور، القارئ في الغيب، القلق من الآتي، والقادر على “التكويع” كلما شعر بنفسه “مزروكًا”. وليد جنبلاط اعتاد من زمان وزمان على اللعب بحروف ومعاني اللغة العربية الخلّاقة التي يحبّ، وهو يختار منها غالبًا ما يصيب. من معارفه – كما من مآثره أو شوائبه – نتأكد أن “زعيم الدروز” في لبنان ذات شخصية تستمرّ غامضة. لكن هؤلاء – الكلّ الكلّ – يجمعون أنه لم يكن، كما لن يكون يومًا، وسطيًا أبدًا، بل متطرّفًا في قراراته ويعجز عن وضع قدم في البعل وأخرى في الساقية. هذه ميزة لدى الرجل. لكنه لم يستطع نسيان ما حصل في السابع من آب عام 2007. طيور الهمّ التي حامت تلك اللحظات ما زالت تحلّق فوق رأسه. لذلك نراه، كلما تقدّم آخرون – من حلفائه – في مسار ما، يضرب الفرامل محاولًا تقطيع المرحلة من دون اشتباكات ومخاطر أمنية، مقدمًا أحيانًا تنازلات “في الشكل لا في المضمون”. هذا أسلوبه “السرمدي” في اللعبة السياسية، يرافقه كلازمة بعنوان مبسّط: “تكويعة جنبلاط”.


بعد قيلولة أخذها وليد بيك، استيقظ وفي فمه ماء، وسارع إلى التغريد عبر منصة “إكس”. هذه عادته منذ أعوام، منذ أيقن بأن أدوات اللعبة الإعلامية قد تغيّرت. صحيح أنه ذات يوم بعد عراك إلكتروني خاضه مع تيار المستقبل وعد: “قررتُ استخدام الطرق التقليدية للاتصال، فهي أضمن وأدق وتسمح بالمراجعة والتفكير”، لكنه عاد و”كوّع”. فالسوشيال ميديا أصبحت له – ولسياسيين عديدين – قبل الخبز يوميًا. يستيقظون صباحًا، يرسلون “لطشة سياسية” بدل “صباح الخير”، ثم يغطّون مجددًا في نوم عميق.


فلنترك هؤلاء في حالهم. ولنعد إلى وليد بيك. ما باله اليوم؟ بين “جماعته” وقوى مسيحية كثيرة في التاريخ الحديث – مع القوات اللبنانية كما مع الكتائب – تفاصيل جميلة خيضت معًا. فمعًا أخرجوا جيش الاحتلال السوري من لبنان. ألا تتذكرون؟ محطات كثيرة جمعتهم. وصداقات متينة تشاركوا بها. لكن تبقى لدى “البيك” نقزة – عكس القاعدة – من كل شيء. فماذا في التحليل المنطقي؟ اليوم، وليد جنبلاط قبل أحداث السويداء شيء وبعد أحداث السويداء شيء آخر. هو، في المضمون، مقتنع بأن التطبيع حاصل، ولا بدّ منه، لكن للرجل أسلوبه، يعتمد من خلاله حاليًا سياسة توزيع الأدوار. فينادي، في هذه اللحظة، بالعروبة، في حين يترك سواه يتحدثون عن التطبيع. هذا هو ذكاء وليد جنبلاط الطبيعي. هو ابن الجبل الدرزي، زعيم الجبل الدرزي. والدروز لم ينسوا الاضطهاد الذي تعرضوا إليه عبر التاريخ. هم سكنوا الجبال والمغاور وحققوا انتصارات لكنهم عاشوا أيضًا خيبات وانكسارات. لهذا، نرى وليد بيك دائمًا في الظروف الصعبة يبرز بمواقف تراجعية، فيها ارتداد نحو الداخل الدرزي لتحصين البيت الداخلي من أجل تقطيع الوقت. هو تكتيك تعلّمه الموحّدون من تجارب التاريخ. هذا ما حصل بعيد أحداث قبرشمون والشويفات والجاهلية، وهو ما حصل أيضًا يوم زار الرجل سوريا حافظ الأسد، قاتل والده، وهو ما قرأ فيه معارفه “كثيرًا من الحكمة”. في هذا الإطار، نتوقف عند توفيق سلطان، ابن الحركة الوطنية، الذي يعرف الابن وليد كما عرف الأب كمال. هو بقي مع الابن بعد اغتيال الأب. صمد في الحزب الاشتراكي طويلًا ويعرف كواليسه جيدًا. فوليد يثق أن للضرورة أحكامًا، بدليل أنه مدّ يده إلى قاتل أبيه. “فوليد كان يمكن أن يكون شيخ عشيرة يأخذ بالثأر أو أن يتجانس مع الجوّ لاستمرار العمل السياسي وإبطاء مفاعيل تغييب والده. وهو اختار التجانس، انطلاقًا من ثقته أن “الشاطر” إذا خسر شخصًا عزيزًا فيجب ألا يدع خسارته له تؤدي إلى خسارة ما يؤمن به هذا الشخص”. هذه فلسفة وليد جنبلاط.


سألنا توفيق سلطان: هناك من يصف وليد جنبلاط بالمتغيّر الدائم. فأجابنا: “من يقول ذلك يريده شابًا على طول كي يسهل ضربه. ما يهم وليد هو خدمة القضية واستمرار البلد. وليد ما زال يقرأ في الخرائط ويعرف كيف يدور الزوايا، وما يهمه هو بقاء البلد على قيد الحياة”.


نعود إلى وليد بيك اليوم. فأين تتجه “أنتينات” ابن الـ76؟ هو راقب أحداث السويداء بحذافيرها، كما يراقب محطات تأسيس الشرق الأوسط الجديد، والمدّ السني وكم يتحرك فيه اليوم الخوف الأقلوي، لذا نراه يساير الشيعة ويساير السنة ويعطي إشارة التحالف الانتخابي، في ذات الوقت، مع المسيحي القوي. فها هي علاقته مع القوات اللبنانية، الشريكة في الجبل، في أحسن حالاتها. وتأكيدًا على ذلك، أرسل وزير الزراعة نزار الهاني إلى تنورين، الزاخرة بالقواتيين، متقصّدًا زيارة معمل تنورين بعدما كادت تتحول قضية المياه إلى شائكة طائفية. زار الوزير المحسوب على وليد جنبلاط تنورين في تشرين هذا كتوليفة على أنه يزور المزارعين، وأهالي المنطقة يعرفون أن المزارعين وضّبوا صناديق التفاح وغادروها. هو أرسله اليوم لقطع دابر الشك باليقين أن العلاقات ستكون بين الجانبين “عال العال”. هذا هو وليد بيك الذي يضمر بكل قول أو فعل أفعالًا وأقوالًا. هو يحاول تهدئة الأمور مع الجميع بانتظار تقطيع المرحلة.


يحاول وليد بيك أن “يلعبها صحّ” وأن “يساير” ما تبقى من المحور الإيراني واللعب على وتر العروبة في آن واحد، غير أنه – مثل الجميع – يخطئ أحيانًا. فالمرحلة اختلفت تمامًا وما عاد “التلوّن” فيها سهلًا. وهذا ما يبدو أن وليد جنبلاط لم يفهمه “صحّ” مع تغريدة مورغان أورتاغوس الموجهة إليه قبل أشهر بقولها: “المخدرات مضرة يا وليد”، فردّ عليها مغردًا: “الأميركي القبيح”. فهل المكوث عند منتصف الطريق ما زال ممكنًا لزعيم الجبل؟ هذا ما يجب أن يفقهه وليد بيك في هذه المرحلة المصيرية الشائكة. فاللعبة خرجت من أيدي اللبنانيين وباتت في عهدة المجتمع الدولي، والضرب على الحافة وعلى المسمار في آن بات شبه مستحيل. والنأي بالنفس يتطلب حيادًا. وقاموس اللغة العربية مليء بالمفردات الجديدة.


وليد جنبلاط يتمسك بالعروبة. وهذا ليس جديدًا. وعروبته ليست، بحسب مصدر لصيق به، عروبة نظام الأسد الهالك ولا عروبة الاستهتار وسجن صيدنايا وتدمر ولا الاستخبارات، بل عروبة الانفتاح. هو اعتاد منذ زمان مكاشفة أصدقائه بصراحة يمارسها حتى مع نفسه. والرجل قال ذات يوم، بعد تعثر ثورة الأرز وانسحابه منها: “لقد استعدت تاريخي”. فهل هو “مورط” و”مكبل” بتاريخ محسوب عليه؟ يقول المصدر اللصيق به: “يوم اغتيل كمال جنبلاط نصح أحدهم وليد بقوله: لا يناسبنا معرفة من قتل والدكم بل مصلحتنا ألا نعرفه”. هكذا تجاوز دم والده لكنه لم ينسَ، وهكذا يمضي في التعاطي مع الأمور. اليوم، وليد يحاول أن ينأى أقله بنفسه في مرحلة يكاد ينتهي العالم من كتابة فصول الشرق الأوسط الجديد الأخيرة. فهل ينفع فيها استعارة مرادفات اللغة العربية المطاطة؟ فلنستعر جواب محمد الحسيني على آخر ما غرّد به وليد جنبلاط: “لأننا نسمع ونرى ونستشرف، فإن المشروع كبير والمخطط خطير، والتغيير مع التقسيم ليس ببعيد”.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة