المحلية

نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت
الأحد 23 تشرين الثاني 2025 - 07:09 ليبانون ديبايت
نوال نصر

نوال نصر

ليبانون ديبايت

من الشراونة إلى بريتال - “أبو سلة” مقتول و”نوح” موقوف… فهل عادت الدولة إلى الدولة؟

من الشراونة إلى بريتال - “أبو سلة” مقتول و”نوح” موقوف… فهل عادت الدولة إلى الدولة؟

"ليبانون ديبايت" - نوال نصر


منهمكون نحن في تطورات “الشراونة”، ونكاد ننسى أمر “حيّ السلم” و”الليلكي” و”بريتال”… معتقدون أنّ مسألة البقع الموبوءة انتهت بقتل أبو سلة وتوقيف نوح زعيتر، ومتناسون أن هؤلاء ليسوا إلا عمّالًا لدى من هم أكبر، وامتدادهم أوسع، وكلامهم “أمر”، وأدواتهم “تروح وتجيء”، ويبقون “الحدّ الفاصل” كما الرجل الخفي invisible man في الرسوم المتحركة. ومن قال إن تلك الرسوم فقط من وحي الخيال؟ هنيئًا لنا في اختراق حصن “الشراونة”، لكن ماذا عن التالي؟ هل انتهت القصة هنا؟


من زمان، قبل ثلاثة عقود وأكثر، منذ انتهت الحرب اللبنانية وفتحت المناطق على بعضها، نسمع مناداة من مواطنين سُرقت سياراتهم “تحت عين الشمس” وأصبحت في بريتال المحمية من بيت مقداد وبيت زعيتر وبيت جعفر وسواها. كان اللبنانيون يبكون دمًا على أغراضهم ويستعيدونها بعد دفع نصف ثمنها. كل هذا حصل تحت عين الدولة التي يُفترض أنها تؤسس لجمهورية ثانية. لكن كان هؤلاء محميّون. مرّت الأيام واستمرّت تلك البقاع عصيّة على الدولة. وتمددت المناطق المتمردة على القانون. وكلها واقعة، وليس بالصدفة، تحت جلباب الثنائي الشيعي.


كي لا نذهب بعيدًا، تعالوا إلى قلب بيروت، إلى منطقتي حيّ السلم والليلكي، المزدحمتين بأشخاص طالما حملوا السلاح كما يحلو لهم، وقتلوا كما يحلو لهم، ونهبوا، وبقوا، بغالبيتهم، خارج العقاب. منطقتان في قلب بيروت تشبهان تمامًا مناطق في بعلبك الهرمل. وأبطالها من آل زعيتر وآل مشيك وآل طليس وآل مقداد وآل حجولا. ألا تتذكرون ذاك الشاب من آل صفوان، العشريني، الذي قُتل قبل عامين في الليلكي، بحجة أخذ الثأر؟ العشائر، في التاريخ، أبناء نخوة. فلماذا يتحول بعضهم في تلك البقع إلى قتلة وسارقين وخارجين عن القانون؟ حجّة هؤلاء كانت دائمًا أنهم ينتمون إلى مناطق لم تعش نعمة الدولة. لكن لماذا لا نرى نفس الأساليب والتصرفات عند العشائر السنية التي يعاني أهلها ما تعانيه العشائر الشيعية؟ سؤال طرحناه على أحد وجهاء العشائر السنية من آل عسكر، فأجاب بما توقعناه: “هؤلاء، العشائر الشيعية، طالما شعروا بسندٍ، بظهرٍ، يتمثل بحزب الله الذي قد لا يكون دعمهم بشكل مباشر، غير أنه غضّ النظر عنهم لأمرين: فالمنطقة خزان بشري مهم له، يحمي ظهره كما يحمي ظهرهم، وهي منفذه إلى سوريا والعراق وصولًا إلى إيران، لذا ترك لهؤلاء العنان من خلال منحهم غطاء هم بحاجة له، بلا “وجع رأس”، واهتمّ بأمر الجنوب. فضّل الحزب السيطرة على الحدود من خلال هؤلاء الأشخاص، محبذًا عدم الاصطدام بهم والدخول في اقتتال طائفي. هذا أولًا. ثانيًا، استفاد “الحزب” منهم كفزاعة للدولة، للقول: هناك زعران، ووحدي قادر على ضبطهم. لكن الأيام أثبتت أن ذلك كان مجرد وهم”.


أسوأ ما عاشه لبنان طوال عقود هو أن بعض أولاد العشائر أساؤوا إلى العشائر نفسها قبل كل الآخرين. فوجهاء العشائر يرفضون، في المطلق، كل أشكال الموبقات التي أُلصقت بعائلات تنتمي إلى عشائر. نسأل أبناء العشائر الشيعية عن هذا “الصيت” فيتكرر الجواب: “نحن براء من كل الموبقات التي حصلت”. لكن كثيرًا منها تمّ طوال عقود على أيدي أشخاص ينتمون – ويتلطون – بعشيرتهم. “فليحمِنا الجيش لنتعامل مع الخارجين عن القانون ونساهم في إبعادهم عن محيطنا”. لكن الجيش بدأ يستعيد دوره ويتدخل؟ “ما نحتاج إليه هو أكثر من توقيف اسم رائج في عالم المخدرات وقتل آخر. ما نريده – ومن زمان – أن نشعر بأننا في دولة، غير متروكين لأهواء أشخاص يهوون استغلالنا والهروب حين نقع. نوح زعيتر أصبح بين أيدي الدولة، لكن نقولها من هنا: أسياد نوح ما زالوا طلقاء”.


نطلّ على منطقة الفنار الزعيترية، فنلمح بيت “أبو سلة”، وتحته، عند مدخله، حاجز ثابت للجيش اللبناني. المناطق التي كان يعمل منها تجار المخدرات كثيرة. ويقال إن أموالًا لا تزال تصل حتى اليوم، شهريًا، إلى عائلات كان يساعدها القتيل. ماذا يعني هذا؟ يبدو أن الملف لم يُقفل بقتل تاجر كبير وتوقيف تاجر آخر كبير، فوراﺀ الاثنين أسماء كبيرة. لكن ما يُطمئن هو أن قدرة حراك هؤلاء باتت أقل بكثير من قبل.


فلنعد إلى الليلكي، كلهم يتصرفون وكأنهم “روس”، والمناوشات طالما كانت تحصل بين أولاد العشائر أنفسهم، بين آل حجولا وآل مشيك، وبين آل زعيتر وآل حجولا. والمصالحة تتم “بعون الله”. ماذا عن “حزب الله”؟ الحزب، في أيام عزّه، لم يرد أن يتورط مع أبناء العشائر الخارجين عن القانون. وهناك حتى اليوم، في عزّ أزمة الحزب، من يحاول أن يتلطى وراءه. ويعلق أحد العارفين بتلك البقع جيدًا: “الأحزاب طالما واجهت إشكالية منعتها من الحسم، تمثلت في أن الردع يؤذيها كما أن الفوضى تؤذيها. لذا اختارت البقاء على مسافة من كل ما يحصل أو ما كان يحصل”.


الثابت أن ليست الدولة وحدها من أهملت المناطق التي يعيش فيها أولاد العشائر، فحزب الله وأمل فعلا أيضًا ذلك. هما تركا أمرهم كي لا يشكلوا “وجع رأس” لهما من ميل، وكي يُبقياهم “رهن إشارتهما” على قاعدة أن “الحزب” و”الحركة” سيحتاجان إليهم ذات يوم. في المقابل، انسحبت الدولة تاركة أمرهم “للحزب” و”الحركة”. دوامة دفع كل لبنان ثمنها.


نوح زعيتر أصبح وراء القضبان. هو، منذ مدة، تحديدًا منذ سقوط نظام الأسد، في قفص مقفل، يتحرك فيه مروجًا السم الأبيض. يعني، في الشكل، قد لا يكون تغيّر لديه شيء إلا إذا كانت دولتنا قد أخذت قرارها النهائي: إيقاف كل المشاركين، ممن سهّلوا هذه التجارة على مدى عقود. فلنعد إلى العشائر السنية في البقاع بحثًا عن أجوبة من جيران من ارتكبوا في بلدات محسوبة على العشائر الشيعية. هل انتهى ملف تجارة المخدرات في بعلبك الهرمل؟ يجيب أحد الوجهاء: “أبناء العشائر لا يرتكبون مثل هذه الآثام، لكن ما حصل أن الدولة غابت ولم يكن يجرؤ أي ضابط أو عسكري على فعل شيء. سلطة هؤلاء بدت أقوى من الدولة، خصوصًا أن تلك البلدات تقع جغرافيًا على الحدود مع سوريا، وهي مفتوحة. الدولة السورية كانت مستفيدة من هذه التجارة، كما ضباط سوريين كبار شكلوا هذا الدهليز المتمادي. وهم من حموا تجار المخدرات في لبنان. حزب الله استمرّ في وضع “المتفرج”، والدولة كانت ممنوعة من الحراك فوقفت بدورها “متفرجة”. لكن، منذ سقوط النظام في سوريا، بدأ تجار المخدرات ومرتكبو الآفات يتساقطون كما حجارة الدومينو. وتوجه الدولة اللبنانية نحو إيقاف “زعرنات” الجماعات الفالتة. ونوح زعيتر ليس إلا موظفًا في ما يشبه شركة كبيرة، متعددة الفروع، تمارس تجارة واحدة. فرع أبو سلة أُقفل، وفرع نوح زعيتر قد يكون أُقفل، لكن التجارة ما زالت قائمة ولو بخفر”.


عدد أبناء وبنات العشائر السنية لا يزيد، بحسب عارف يستند إلى دراسات جديدة، عن خمسين ألفًا في المنطقة، بينما يزيد عدد أولاد العشائر الشيعية عن مئتي ألف. وهناك مصاهرة بينهما والتقاء في المناسبات واحترام. لكن المشاكل لم تظهر إلا في المناطق ذات العشائر الشيعية. الفقر سببًا؟ فلنأخذ منطقة الفاعور، عاصمة العشائر السنية في قلب البقاع الأوسط، وتضم نحو ثلاثين ألف نسمة، لا مدرسة فيها، وكل الخدمات فيها شبه معدومة. إنها نموذج البلدات المعدومة في لبنان، وتضم عائلات ليس معها ثمن ربطة خبز، لكنها لم تلجأ لا إلى المخدرات ولا إلى السرقات. هذا معناه أن التحجج بالفقر وقلة الخدمات لا يجدي دائمًا.


نوح زعيتر أصبح في قبضة العدالة. اللهم أن لا يتابع، بأمر من “الرؤوس” الكبيرة، العمل من الداخل. وهو لم يكن وحده طبعًا في كل ما اقترفه طوال عقود، وحصل بموجبه على مال يزيد عن موازنات دول. هنا يعلّق أحدهم بالقول: “نوح لعبها صحّ. فهو لو لم يسلم نفسه لكان قد قتل، وهو أكثر المدركين أنه بات في قفص، لا ملجأ له، ولا مكان يهرب إليه، ولم تعد المناورة ممكنة، فارتضى بتسوية. وأُقفل ملفه”. يستطرد المصدر بالقول: “نحن، في البقاع الأوسط، نتأكد يومًا بعد يوم أن المعادلة تغيرت. وأن قوة حزب الله كانت من حضور السيد حسن نصرالله. ووجهاء العشائر الشيعية رأوا ما يحصل باسمهم من موبقات مرفوضة في قيمهم، وتأكدوا أن الدولة لم تمارس أي ظلم بحقهم، سواء بقتل أبو سلة أو باعتقال نوح زعيتر. الجيش اللبناني لم يرصدهما وهما يعملان بعرق الجبين من أجل توفير الخبز لأطفالهما، بل بعدما نثرا السم الأبيض والموبقات في جنبات كثيرة. لهذا لن يكون أي موقف اعتراضي من العشائر الشيعية على قرار الدولة، وإعطاء الجيش اللبناني أمر الأمن والأمان. والشيعة، بغالبيتهم، باتوا يدركون تمامًا أن لا مجال لعيش آمن إلا من خلال الدولة اللبنانية. هؤلاء بدأوا يتخلون عن مفهوم “دولتهم الخاصة”، ولم يبقَ إلا أن يفهم “الحزب” أن أي مواجهة قد يفكر القيام بها لن تكون ممكنة طالما “ظهره” بات مكسورًا”.


هل انتهت قصة نوح زعيتر؟ هل بات بإمكان الأمهات والآباء الاطمئنان من سهولة انتشار المخدرات في المدارس والجامعات؟ هل عادت العشائر الشيعية إلى كنف الدولة، وستعود الدولة للنظر إلى ما يحتاج إليه كل الشيعة وكل السنة وكل المسيحيين من خدمات في لبنان كله، وفي المناطق الحدودية بالتحديد؟ عساه خير. هي خطوات أولى في رحلة الألف ميل نحو عودة الدولة إلى لبنان وعودة اللبنانيين إلى الدولة.

تــابــــع كــل الأخــبـــــار.

إشترك بقناتنا على واتساب

WhatsApp

علـى مـدار الساعـة

arrowالـــمــــزيــــــــــد

الأكثر قراءة