"ليبانون ديبايت" - شاكر البرجاوي
جاء خطاب الرئيس جوزاف عون عشية الذكرى الـ82 للاستقلال في لحظة سياسية دقيقة، حيث تلتقي الضغوط الأمنية جنوباً مع الأزمة الداخلية والارتباك الإقليمي. بدا الخطاب محاولة لتجاوز الطابع البروتوكولي للمناسبة، نحو صياغة رؤية سياسية متكاملة تُعيد تعريف معنى الاستقلال ودور الدولة في المرحلة المقبلة.
وقد ركّز الرئيس عون منذ البداية على الجنوب، مؤكدًا أن وجود الدولة في المنطقة ليس "رسالة رمزية" بل شرط أساسي لاستعادة الاستقلال. أراد القول إن السيادة لا تتحقق بالخطب بل بالحضور الفعلي لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش اللبناني، في كل المناطق الحساسة.
في هذا السياق، فإن رئيس الجمهورية قدّم الجيش بوصفه ركيزة استقرار وشرعية، ورسالة إلى الداخل والخارج بأن الدولة قادرة على إدارة أراضيها إذا توفرت لها الظروف السياسية والدعم الدولي. هذه المقاربة تعكس فهماً جديداً للاستقلال: ليس إنهاءً للاحتلال فحسب، بل بناء أدوات الدولة لحماية أرضها وحدودها.
مبادرة التفاوض مع إسرائيل: قوة المنطق بدل منطق القوة
أبرز محطات الخطاب تمثّلت في إعلان عون مبادرة من خمسة بنود للتفاوض مع العدو الإسرائيلي، تقوم على انسحابات مشروطة، ولجنة دولية لمراقبة وقف النار، وانتشار حصري للجيش اللبناني في المناطق التي قد تُخليها إسرائيل.
فهو قد طرح أن "منطق القوة لم يعد ينفع"، في محاولة لتقديم التفاوض كعمل سيادي لا كتنازل. المبادرة ليست خروجاً عن الثوابت، بل إعادة تعريف للصراع من موقع الدولة، لا من موقع الفراغ. وهي أيضاً محاولة لإحراج المجتمع الدولي ووضع الكيان الإسرائيلي أمام معادلة: انسحاب تحت رقابة وضمانات، مقابل حضور حصري للدولة اللبنانية.
شدّد الرئيس على "الصدق مع اللبنانيين"، في تلميح إلى غياب الرؤية الموحدة داخل البلاد. كما أعاد الاعتبار لرمزية شهداء الاستقلال، لكن بمنطق وظيفي: الاستقلال لا يكتمل إلا باستعادة الدولة قرارها.
هذا البعد الأخلاقي جزء من استراتيجية سياسية: تعزيز الثقة الداخلية، وخلق مظلة وطنية تحمي أي مسار تفاوضي أو أمني في الجنوب. فبدون وحدة داخلية نسبية، لا يمكن لأي مبادرة أن تصمد، مهما كانت ظروف الإقليم مواتية.
لبنان بين تقاطع القوى الكبرى واللاعبين المحليين
لا يمكن فهم خطاب عون خارج التحولات العميقة في ميزان القوى الإقليمي. ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية تعتمد استراتيجية "الاحتواء بلا تدخل"، إذ تريد منع الانفجار جنوباً، لكن من دون الانزلاق إلى حرب أو تسوية كبرى. من هنا تبدو المبادرة اللبنانية منسجمة مع الرؤية الأميركية التي تعتبر الجيش اللبناني عنصراً مهماً للاستقرار.
وإدراج فرنسا في اللجنة الدولية المقترحة يعكس رغبة باريس بالعودة إلى قلب الملف اللبناني. وخطاب عون يمنحها منصة سياسية مناسبة ويعيد وصلها بالجنوب، وخاصة أن باريس تبحث عن دور دبلوماسي جديد يعوّض تراجع نفوذها في أفريقيا.
أما إسرائيل من جهتها فهي ترى في المبادرة مخاطرة وفرصة في آن واحد: المخاطرة تكمن في انسحاب قد يفتح فراغاً، والفرصة تتعلق بترتيبات دولية تُخفّف التوتّر وتمنح حدودها الجنوبية استقراراً نسبياً. لكن قبولها مرتبط بضمانات أمنية مركّبة.
في المقابل، يحتاج الخليج إلى إشارات واضحة قبل العودة للاستثمار السياسي والاقتصادي في لبنان، وخطاب عون يوجّه إشارة أولى ولكن غير كافية بعد.
التوازنات الهشة: فرصة ضيقة أمام الدولة
يطرح عون مبادرته في بيئة إقليمية مضطربة: الولايات المتحدة لا تريد حرباً. وإسرائيل لا تريد انسحاباً بلا رقابة. اما إيران فلا تريد خسارة أوراقها. فيىحين أن الخليج لا يريد المغامرة من دون ضمانات. وأوروبا تبحث عن دور يُبقيها في المعادلة.
وسط هذا المشهد، يحاول الرئيس إعادة إدخال لبنان إلى دائرة الفاعلية عبر مبادرة تفاوضية تمنح الدولة دوراً مباشراً في تحديد مستقبل الجنوب.
هكذا قدّم الرئيس جوزاف عون خطابًا يتجاوز الطابع الاحتفالي لعيد الاستقلال، نحو رؤية تسعى إلى تحويل المناسبة من ذكرى وطنية إلى خارطة طريق سياسية. فالخطاب يضع الدولة في قلب المعادلة، ويفتح نقاشاً جدياً حول كيفية استعادة السيادة عبر ترتيبات أمنية ودبلوماسية، في توقيت تدرك فيه كل القوى أن الانفجار لم يعد خياراً مقبولاً.
لكن النجاح لا يزال مرهونًا بعاملين أساسيين: قدرة الدولة على بناء توافق داخلي حول المبادرة. واستعداد القوى الدولية والإقليمية للتعامل مع لبنان بوصفه دولة ذات قرار، لا ساحة صراع.