"ليبانون ديبايت"- محمد المدني
لم يكن قرار ديوان المحاسبة في ملف الاتصالات سوى شرارة صغيرة كشفت ما هو أعمق وأكبر، فالدولة اللبنانية نُهبت على مدى سنوات، ووزاراتها تحوّلت إلى صناديق سوداء، وإدارة عامة تم ادارتها كأنّها ملكية خاصة لا يعرف أصحابها إلّا الصرف والسمسرة وتغطية بعضهم البعض.
قرار الاتصالات الذي أظهر عشرات ملايين الدولارات المهدورة على مبانٍ غير مستخدمة، ليس استثناءً بل نموذجًا لحقبة كاملة. في الطاقة، المليارات التي صُرفت على البواخر وخطط الطوارئ والفيول المغشوش والمازوت المهرّب، كانت كفيلة بتأمين كهرباء لدول أكبر من لبنان. وفي الشؤون الاجتماعية، ملايين الدولارات من الجمعيات الأممية تبخّرت في شبكات محسوبية، ووصل منها القليل فقط إلى العائلات الأكثر حاجة. وفي التربية، أموال الدعم الدولي تُصرف على دراسات ومكاتب ومشاريع لا يلمس الطلاب منها شيئًا، والمدارس الرسمية تنهار تحت أعين الدولة.
أما الصحة، فتحوّلت إلى سوق ضخمة تُباع فيها المناقصات وتُهرّب فيها الأدوية، وتُدفع فيها الفواتير بالدولار بينما المرضى يموتون على أبواب المستشفيات. وفي الأشغال، كل طريق محفّرة هو وثيقة اتهام، تعبيد يتكرر، جسور تتصدّع، ومشاريع تُطبخ في الغرف السياسية لا في دفاتر الشروط. الداخلية ليست خارج المشهد، فسوق النمَر، الرخص، المعاملات، كلها تُدار بالواسطة لا بالقانون. امًا البيئة، فملايين صُرفت على النفايات والمحارق والخطط، فيما النتيجة روائح تلوّث الهواء وجبال نفايات تحرس مداخل المدن.
لكن كل ذلك يبهت أمام فوضى الهيئات والمجالس التي أصبحت "دولاً صغيرة" داخل الدولة. رواتب خيالية، تعويضات مضاعفة مرات ومرات، بدلات تفوق أي منطق، وموازنات أكبر من موازنات وزارات أساسية. وإضافة إلى ذلك، موظّفون يتقاضون أموالًا لا يحلم بها أي موظّف في القطاع العام، فقط لأنّهم مدعومون سياسياً.
والأخطر أنّ هذه الهيئات لا تكتفي برواتبها الخرافية، بل بدأنا نشهد موجة مفاعيل رجعية تُصرف لموظفين محدّدين بعشرات ملايين الليرات والدولارات، على الرغم من انهيار الخزينة. مفعول رجعي هنا، زيادة مقنعة هناك، وكلّها تُمرّر تحت عنوان "تصحيح أوضاع" بينما آلاف المعلمين والموظفين والمتعاقدين ينتظرون منذ سنوات معاشاتهم وبدلات النقل وحقوقهم الأساسية.
هكذا، انتقل لبنان من حقبة مليئة بالنهب والسرقة إلى حقبة جديدة مليئة بالمحاصصة والمحاسيب. من هدر الأمس إلى مفاعيل اليوم. من صفقات الاتصالات إلى رواتب الهيئات. من السمسرة في الأشغال إلى التهرّب في الصحة. من أموال التربية المهدورة إلى ملايين الشؤون الاجتماعية الضائعة. من النفايات المحروسة سياسيًا إلى النمَر المباعة علنًا.
المشكلة لم تعد في وزير أو ملف أو وزارة. المشكلة في منظومة تعتبر الدولة غنيمة يمكن قضمها قطعةً قطعة، ومؤسسات تحوّلت إلى مزارع سياسية يقرّر مصيرها "العرّابون" لا القانون. ليبقى السؤال، هل هذا القرار بداية محاسبة حقيقية؟ أم أنّنا سنبقى نتأرجح بين نهب الأمس ومفاعيل الرجعية التي تُصرف اليوم؟