تشهد منطقة الساحل واحدة من أكثر مراحلها خطورة منذ عقود، مع اقتراب مالي من حافة الانهيار الأمني والسياسي، وتقدم الجماعات الإرهابية باتجاه العاصمة باماكو، وتنامي النزعات الانفصالية في شمال البلاد حيث تمدّ جبهة تحرير أزواد سيطرتها على مناطق واسعة، معلنةً طموحًا غير مسبوق لإقامة “دولة أزواد الكبرى” تمتد جغرافيًا حتى تخوم الجنوب الجزائري. هذا التهديد المركّب—تمدد إرهابي شمالي يوازيه تمدد انفصالي في أقصى الشمال المالي—جعل الجزائر في حالة استنفار استراتيجي غير معلَن، فماليتها ليست مجرد دولة مجاورة مضطربة، بل تمثّل في حسابات الأمن القومي الجزائري عمقًا حدوديًا هشًا قد يفتح الطريق أمام الفوضى نحو الصحراء الجزائرية.
في هذا المناخ الملتهب، بدأت الجزائر في الأسابيع الماضية تحركات سياسية ودبلوماسية مكثفة، تتقدمها تصريحات وزير الخارجية أحمد عطاف التي جاءت على مرحلتين: الأولى قبل أيام من انطلاق “مسار وهران” الإفريقي، والثانية خلال افتتاح المؤتمر نفسه. وقد شكّلت هذه التصريحات—بتسلسلها الزمني ودلالاتها—خارطة طريق غير معلنة لعودة الجزائر إلى لعب دور الوسيط في مالي، بعدما تحولت الأزمة إلى تهديد مباشر للأمن الجزائري وإلى ملف دولي تتصارع حوله القوى الكبرى.
تصريحات عطاف قبل مسار وهران… الجزائر تمهّد لوساطة وشيكة
قبل أيام من انعقاد أشغال الدورة ال12 للندوة رفيعة المستوى حول السلم والأمن في إفريقيا-“مسار وهران”، خرج وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف في مؤتمر صحافي بالعاصمة بلهجة جمعت بين التحذير الصريح والرسائل الأخوية. فقد أكد أن التدهور الأمني في مالي “يشغل الجزائر أكثر من غيرها”، ليس فقط لاعتبارات الجوار الجغرافي المباشر، بل لأن “الجزائر لها التزام تاريخي بالوقوف إلى جانب مالي، شعبًا ودولةً ومؤسسات”. وفي ختام حديثه، خاطب الماليين بلهجة ودية لافتة قائلاً إن الجزائر “تبقي يدها ممدودة لأشقائها في مالي”، مستعدة للتعامل بصبر ومسؤولية مع كل الأطراف، وأنها “لا تتخلى عن إخوتها مهما اشتدت الأزمات”.
وتزامنت هذه التصريحات مع تأكيدات إضافية من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في مقابلة تلفزيونية سابقة، قال فيها بوضوح: “إذا أراد الماليون أن نساعدهم فليكن… نحن لا نفرض أنفسنا على أحد، وإن رفضوا فنحن نحترم اختيارهم”. هذا الموقف الرئاسي شكّل الغطاء السياسي للتحرك الدبلوماسي الجزائري، وأعطى إشارة بأن الجزائر لا تبحث عن العودة إلى مالي من باب النفوذ، بل من باب الواجب التاريخي والأخوي وحماية الاستقرار الإقليمي.
وبين سطور هذه التصريحات، بدا أن الجزائر لم تكن تكتفي بالتحذير، بل تهيّئ الأرضية لعودة محتملة إلى الوساطة، بل وربما إلى إطلاق مبادرة جديدة لإعادة ترتيب البيت المالي، خصوصًا مع تحذير عطاف من أن انسحاب السلطات المالية “بصورة أحادية” من اتفاق الجزائر 2015 فتح الباب أمام تمدد الجماعات المسلحة وعودة النزعات الانفصالية، وأنه لا حلّ إلا بـ"الرجوع إلى المسار السياسي قبل فوات الأوان".
مسار وهران: منصة لإعادة الجزائر إلى الواجهة كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها
في الأول من ديسمبر 2025، ومع انطلاق مؤتمر “مسار وهران”، بدا واضحًا أن الجزائر اختارت هذا الحدث ليكون الإعلان الرسمي لعودتها إلى دبلوماسية الساحل. وقد حملت كلمة أحمد عطاف الافتتاحية مزيجًا من التقييم الاستراتيجي والرسالة الأخوية، إذ حذر من أن “الأوضاع في الساحل فاقت حدود التأزم”، لكنه أعقب ذلك بتأكيد أن الجزائر ستظل إلى جانب الماليين “من أجل مرافقتهم في درب المصالحة والاستقرار”.
وقد استكمل عطاف في وهران ما بدأه في مؤتمره الصحافي، مبرزًا أن الجزائر “لم تغلق باب التواصل مع باماكو يومًا”، وأنها كانت وستظل من “أشدّ المدافعين عن وحدة مالي أرضًا وشعبًا ومؤسسات”. هذا الخطاب المضاعف—التحذيري من جهة، والأخوي من جهة أخرى—وضع الأساس لفهم أن حضور الجزائر في مسار وهران ليس حضورًا بروتوكوليًا، بل مقدمة دبلوماسية لعودة قوية إلى لعب دور الوساطة الذي تستلزمه المرحلة.
وتقاطع هذا التوجه مع رؤية الرئيس تبون الذي شدد مرارًا على أن الجزائر “لا تفرض نفسها على أحد”، لكنها “لن تتخلى عن مالي إذا طلبت مساعدتها”. سيناريو فتح الباب أمام القراءة الأكثر ترجيحًا لدى الخبراء: الجزائر تتجه إلى استعادة موقعها في الأزمة المالية كفاعل خارجي، بل كطرف شقيق يعرف أن أمن مالي واستقرارها جزء لا يتجزأ من أمن الجزائر نفسها.
أزمة أزواد: التمرد الذي يتحول إلى مشروع دولة عابرة للحدود
في موازاة الانهيار الأمني في وسط مالي، يعيش الشمال المالي تحولًا أخطر يتمثل في صعود جبهة تحرير أزواد وتحول خطابها السياسي من المطالبة بالحكم الذاتي إلى التلويح بإقامة “دولة أزواد الكبرى”.
فقد أعلن القيادي الأزواي العباس أغ انتلا أن الوقت قد حان لإلغاء الحدود الاستعمارية التي قسمت الطوارق بين مالي والجزائر والنيجر وليبيا وتشاد، وأن مشروع الدولة يجب أن يستعيد “وحدة الشعب الطوارقي”. هذا الخطاب، الذي كان يُتداول في غرف مغلقة، خرج اليوم إلى العلن، مدعومًا بسيطرة ميدانية للجبهة على مناطق واسعة في شمال مالي.
وما زاد من حدّة المخاوف الجزائرية تصريح سيد بن بيلا الفردي، ممثل تنسيقية الحركات الأزوادية، الذي طالب الجزائر بـ“تسليم الأراضي المسروقة”—في أخطر تصريح يصدر عن قيادي أزواي منذ عقود، إذ يُلمّح مباشرة إلى ضم أجزاء من جنوب الجزائر ذي الثقل الطوارقي.
تزامن ذلك مع تقارير جزائرية تحدثت عن اتصالات سرية أجراها بلال أغ أشريف مع عواصم أوروبية—خصوصًا باريس—طلبًا للدعم، وهو ما اعتبرته الجزائر محاولة “تدويل” لأزمة يمكن أن تتحول إلى شرارة انفصالية إقليمية. كما نشر معهد نيو لاينز الأميركي تقريرًا اعتُبر “استفزازيًا” في الجزائر، تحدّث فيه عن “تهميش الطوارق” في الجنوب الجزائري ودعا واشنطن لفتح المجال أمام “المنظمات الطوارقية”. وهو ما فهمته الجزائر على أنه خطاب تبريري للتدخل في شؤونها الداخلية واستغلال للأزمة المالية للضغط عليها.
تمدد الإرهاب نحو باماكو… سيناريو السقوط الذي يخشاه الجميع
على الجانب الآخر من المعادلة، تتقدم الجماعات الإرهابية التابعة لـ“داعش” و“القاعدة” بسرعة مقلقة نحو العاصمة المالية. وتشير تقارير استخباراتية غربية إلى احتمالية سقوط باماكو إذا لم يُطلق مسار سياسي شامل يتدارك الانهيار.
ونقلت تقارير صحفية أن تنظيم “جماعة أنصار الإسلام والمسلمين” يحاصر العاصمة فعليًا من الشمال الشرقي، ويهاجم قوافل التجارة ويقطع خطوط الإمداد.
بالنسبة للجزائر، هذا التمدد لا يعني فقط وجود إرهابيين قرب حدودها، بل يعني احتمال اختلاط موجات النازحين بمتطرفين يحاولون التسلل نحو الجنوب الجزائري—وهو ما أكدته إندبندنت حين قالت إن “أكبر تهديد تتوجس منه الجزائر هو اختراق إرهابي لقوافل النازحين”. ومع طول الحدود وصعوبة التضاريس، فإن هذا السيناريو يشكل كابوسًا أمنيًا لكل أجهزة الدولة الجزائرية.
الأمم المتحدة تدخل على الخط: دعوة صريحة لعودة التقارب الجزائري–المالي
في اجتماع مجلس الأمن يوم 18 نوفمبر 2025، حذّرت الأمم المتحدة من “تجدد الهجمات الجهادية في منطقة الساحل”، ودعت مالي والجزائر إلى تجاوز خلافاتهما والتنسيق باعتبارهما خط الدفاع الأول ضد الانهيار.
وقال سفير مالي عيسى كونفورو:
“نحتاج إلى نهج مختلف… يقوم على إعادة بناء الثقة بعيدًا عن التدخلات الخارجية العدائية والعقوبات غير الإنسانية.”
وقد فهمت الجزائر هذا الموقف الأممي على أنه غطاء دولي لعودتها إلى الوساطة، خاصة مع تأكيد خبراء الأمم المتحدة أن الجزائر “القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على مساعدة مالي دون أجندة استعمارية”.
هل تبدأ الوساطة الجزائرية قريبًا؟
تبدو كل المؤشرات متجهة نحو إطلاق وساطة جزائرية جديدة، خاصة بعد تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون ووزير خارجيته أحمد عطاف الأخيرة.
اليوم، ومع اقتراب باماكو من الانهيار، وتصاعد خطاب “أزواد الكبرى”، وخطر تسلل الإرهابيين نحو الحدود الجنوبية، تجد الجزائر نفسها مضطرة للعودة بقوة إلى الملف المالي. فالجزائر تدرك أن حماية أمنها تبدأ من شمال مالي، وأن ترك الأزمة بلا حل يعني انتقال الفوضى إلى داخل حدودها بطريقة أو بأخرى.
هي وساطة اضطرار لا اختيار حسب ما وصفها الخبراء… لكنها ربما تكون آخر فرصة لإنقاذ مالي من الانهيار وإنقاذ المنطقة من الحرب.