"ليبانون ديبايت" - باسمة عطوي
يكاد لا يمرّ شهر من دون تسجيل تحرّكات مطلبية لزيادة الأجور في القطاع العام، سواء لموظفي الإدارة العامة أو الأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي. هذا المشهد المتكرّر منذ الانهيار المالي في 2019 سببه محاولة كل من الحكومات المتعاقبة والموظفين والأساتذة حلّ مشكلة تصحيح الأجور والتغلّب على نسب مرتفعة من التضخم، كلٌّ من منظوره وبما يناسبه من إجراءات، من دون الالتفات إلى تداعيات الحلول الترقيعية التي يطرحها الجانبان، سواء على الوضع المالي والنقدي المهترئ أصلًا (وهذا ما يُسجّل على الموظفين)، أو من خلال تجاهل السلطة اللبنانية تنفيذ حلول جذرية لمعالجة الأزمة المالية وإقرار خطة التعافي منذ ما يقارب ست سنوات.
هذا الكباش المستمر لا ينفي أن نقاشًا جديًا يجب أن يحصل حول كلفة العيش بالحدّ الأدنى من مقومات الحياة الكريمة لأي عائلة لبنانية، في ظل الارتفاع المستمر في معدلات التضخم وتداعياته على أسعار السلع والخدمات. علمًا أنّه تمّ في تموز الماضي رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 28 مليون ليرة، أي ما يعادل 312 دولارًا، وهذا يتناقض تمامًا مع الأرقام التي يوردها المختصون حول المبلغ المطلوب لتأمين الحدّ الأدنى من العيش الكريم في لبنان. ففي المفاوضات التي سبقت هذه الزيادة، طالب الاتحاد العمالي العام بـ 700 دولار كحدّ أدنى للأجور، ليتمّ رفع 112 دولارًا فقط على الـ 200 دولار التي كانت تُعتمد سابقًا كحدّ أدنى للأجور.
وبحسب برنامج الأغذية العالمي، تحتاج أسرة من خمسة أفراد إلى 627 دولارًا لتأمين حاجاتها الأساسية، في حين أنّ هذا المبلغ لا يؤمّن سوى 63.5 بالمئة من الإنفاق الأسري للبقاء على قيد الحياة، و50 بالمئة من الإنفاق الأسري عند حدّ الفقر.
بمعنى آخر، لا يتضمن هذا المبلغ (627 دولارًا) جميع الحاجات الأساسية لمعيشة الأسرة، وإنما كلفة “سلة الإنفاق الأدنى” وفق الأسعار في آذار 2025. وهذه سلة تقشفية جدًّا، لا تحتوي سوى على 2100 سعرة حرارية للفرد في اليوم من المغذيات الأساسية والفيتامينات، بالإضافة إلى تكاليف الحدّ الأدنى للسكن وخدماته وغاز الطهي والتدفئة والنقل والصحة ومواد النظافة الشخصية والملابس.
وفي هذا الإطار، يشير البنك الدولي في أحد تقاريره الصادرة عام 2024، إلى ارتفاع معدل الفقر في لبنان بعد الانهيار إلى 44 بالمئة، ويصل في المناطق الطرفية (عكار) إلى 70 بالمئة، في حين أنه كان في عام 2012 نحو 12 بالمئة.
الحدّ الأدنى مرتبط بتخفيض فواتير البنى التحتية
يشدّد مصدر مختص لـ”ليبانون ديبايت” على أنّه “يجب أن يترافق احتساب الحدّ الأدنى للأجور مع تحسين البنى التحتية الأساسية وتخفيض فاتورتها على المواطن، أي كلفة خدمات كهرباء الدولة والمولد الخاص والمواصلات التي تتخطى 300 دولار شهريًا، لأن كلفة هذه الخدمات تزيد العبء على الراتب. وإلّا سيبقى الموظف تحت خط الفقر المدقع، وتتحوّل الزيادات إلى شكلية وترقيعية من دون مفعول حقيقي”.
ويعتبر المصدر أنّ “المقارنة بين الحدّ الأدنى للأجور (312 دولارًا) والمبلغ الذي حدّده برنامج الأغذية العالمي (627 دولارًا)، تُظهر أن هناك فارقًا يبلغ 50 بالمئة يؤمنه المواطن إما من خلال العمل في أكثر من وظيفة، أو الاعتماد على دعم الأبناء أو الأقارب المغتربين. علمًا أن نسبة كبيرة من العمال في القطاعات الزراعية والخدمات المنزلية والورش الصغيرة لا يحصلون على الحدّ الأدنى أصلًا، وبعضهم يعمل بلا عقود ولا ضمان اجتماعي، وهو ما يجعل رفع الحدّ الأدنى ضرورة وحماية وليس مجرد رقم”.
ويختم: “تدهور الأجور في لبنان يدفع آلاف الشباب إلى الهجرة، ويضرب الاستقرار الاجتماعي، ويرفع مستويات التوتر والاكتئاب بين العاملين والموظفين، ويقضي تدريجيًا على ما تبقّى من الطبقة الوسطى. لذلك، يجب تطبيق السلم المتحرّك وربط الأجر بمؤشر الأسعار سنويًا عبر لجنة المؤشر، لضمان تحديث تلقائي يواكب الأسعار بدل الانهيار الدوري”.
أبو سليمان: الحدّ الأدنى للأجور ضمن خطة إصلاحية
يعتبر الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان لـ”ليبانون ديبايت”، أنّ “أي زيادة للأجور كان ينبغي أن تأتي ضمن خطة إصلاحية شاملة، تتضمن إصلاحًا ضريبيًا وإداريًا واضح المعالم، تواكبها إجراءات للحدّ من الهدر وتعزيز الكفاءة داخل القطاع العام”.
ويختم: “أي إجراء اجتماعي أو اقتصادي يجب أن يكون جزءًا من سياسة اقتصادية متكاملة، لا أن يأتي كردّ فعل شعبوي أو تحت ضغط سياسي. فبهذا النهج سنبقى ندور في حلقة مفرغة من القرارات العشوائية، من دون القدرة على استعادة الثقة أو تحقيق الاستقرار طويل الأمد”.