"ليبانون ديبايت"
في وقت يعيش فيه اللبنانيون أسوأ مستويات التغذية الكهربائية منذ عقود، تتهاوى رواية وزارة الطاقة التي حاولت تبرير الانقطاع الحاد للتيار بذريعة “تأخير شحنة فيول”. الوقائع والمستندات المتوافرة تكشف بوضوح أن ما يجري لا يمت بصلة إلى شحنة متأخرة، بل يرتبط مباشرة بمنظومة فساد واحتكار وتزوير تتحكّم بملف استيراد الفيول منذ سنوات.
تُظهر المستندات الرسمية أن وزارة الطاقة أبرمت عقداً بالتراضي مع شركة KPC بقيمة 67 مليون دولار، وحدّدت بنفسها أن موعد تسليم الشحنة الثانية يجب أن يتم بين 10 و20 كانون الأول. ورغم ذلك، أعلنت الوزارة أن “الشحنة المنتظرة تأخرت” وأنه كان يفترض أن تصل قبل 8 كانون الأول، في تناقض صارخ مع المواعيد المثبتة في نص العقد الموقع. هذا التناقض ينسف رواية الوزارة بالكامل، إذ إن “التأخير” المزعوم غير موجود أساساً، وإذا كانت الوزارة تعتبر أن هناك تأخيراً فعلياً، فإن العقد يفرض غرامة بقيمة 21 ألف دولار عن كل يوم تأخير، من دون أن يُعلن عن أي إجراء عقابي أو تفعيل لبنود الغرامة، ما يفتح الباب واسعاً أمام الشبهات.
مصادر مطلعة تؤكد أن دخول شركة KPC إلى السوق اللبنانية لم يكن مساراً طبيعياً أو تنافسياً، بل جرى عبر شبكات نفوذ تقليدية تتحكّم بملف الطاقة منذ سنوات، وعلى رأسها الشركات التي تشكّل كارتيل الفيول. وتشير المعلومات إلى أن KPC اشترت الناقلات من شركة Vitol، التي تتعامل حصراً في السوق اللبنانية مع شركة BB Energy.
وفي موازاة ذلك، توقفت شركات عدة عن المشاركة في مناقصات وزارة الطاقة، ليس بسبب عوامل تقنية أو تجارية طبيعية، بل نتيجة انكشاف عمليات التزوير واحتجاز الناقلات المتورطة بالغش، وفي مقدّمها الناقلة Hawk III. هذا الواقع دفع الشركات التي اعتادت التلاعب إلى تجنّب الدخول في مناقصات جديدة خوفاً من حجز السفن وتحميلها تبعات قانونية ومالية جسيمة.
وعلى مدى سنوات، كانت المناقصات محصورة عملياً بين عدد محدود من الشركات، لا يتجاوز أربعاً أو خمس، جميعها تستورد الفيول من محورين رئيسيين. المحور الأول تقوده شركة Coral Energy الأذربيجانية، التي وُضعت على لوائح العقوبات، فأنشأت شركتي Polypro وPontus للتحايل على هذه العقوبات، ومن خلالهما استمرت عمليات البيع إلى السوق اللبنانية. أما المحور الثاني فيضم مجموعة Fenix – Galileo – Futura، وهي الجهة التي باعت ناقلة Hawk III. وقد اعتمد هذان المحوران على الفيول الروسي كمصدر أساسي، مع تغيير المنشأ عبر تركيا ومصر لإخفاء المصدر الحقيقي. وبعد انكشاف التلاعب، لجأت بعض الشركات إلى استئجار خزانات ضخمة في مرافئ مرسين ومصر لإعادة تحميل الغاز أويل وتبديل منشئه.
في المقابل، ترفض الشركات العالمية النظامية الدخول إلى السوق اللبنانية لعدة أسباب متراكمة، أبرزها الفساد والمحسوبيات، إذ تُحسم المناقصات سلفاً لمصلحة جهات محمية إدارياً داخل وزارة الطاقة، ما يجعل أي منافسة فعلية مستحيلة. كما أن دفتر الشروط الذي تعتمده الوزارة يتضمن مواصفات تقنية غير موجودة أصلاً في الأسواق العالمية، وهي مواصفات معقّدة وغير قابلة للتطبيق، تؤدي إلى رفع الأسعار، ومنع المنافسة، وإجبار أي شركة ترغب بالمشاركة على الغش لتلبيتها. وقد سبق أن اعترض على هذه الشروط خبير الاتحاد الأوروبي المكلّف من إدارة المناقصات في سنة 2021.
إضافة إلى ذلك، تكشف الوقائع عن شبكة فساد خطيرة في الفحوصات والمختبرات، إذ إن شركات المراقبة التي تُجري الفحوصات في لبنان هي نفسها شركات متورطة سابقاً في ملف الفيول المغشوش، وتتعاون مع مختبرات خارجية مرتبطة بها، ما يشكّل تضارب مصالح صارخاً يسمح بالتلاعب بتركيبة الفيول ونتائج الفحوصات.
وتبرز ناقلة “Hazard” كنموذج فاضح لهذه الآلية. فالتقارير الفنية تظهر أن فحص الجودة في مرفأ التحميل أظهر نتائج غير مطابقة للمواصفات اللبنانية، ومطابقة فقط للمواصفات الروسية والأوروبية. لكن عند وصول الناقلة إلى لبنان، تحوّلت نتائج الفحوصات فجأة إلى “مطابقة 100%”، عبر شركات المراقبة نفسها، ما يكشف بوضوح أن العينات تُعدّل وأن الفحوصات تُستخدم لتغطية عمليات الغش والتزوير.
خبراء في قطاع النفط يؤكدون أن وقف العتمة وعودة التيار لا يحتاجان إلى حلول سحرية، بل إلى قرارات واضحة، تبدأ باعتماد المواصفات الأوروبية القياسية المتداولة في الأسواق العالمية، بدلاً من مواصفات مفصّلة على قياس شركات محددة. كما يشددون على ضرورة وقف التعامل مع شركات المراقبة المدانة سابقاً، وفتح المناقصات بشفافية حقيقية، مع تعديل دفتر الشروط لإزالة العوائق التقنية المصطنعة. ويؤكد هؤلاء أن التغيير الطفيف في نوعية الفيول لا يؤثر على معامل الكهرباء، التي تعمل منذ سنوات على أنواع متوافرة في السوق من دون أعطال تُذكر، ما يثبت أن الذريعة التقنية ليست سوى غطاء لحماية شبكات المصالح.
خلاصة الوقائع لا تحتمل الالتباس: رواية وزارة الطاقة حول “الشحنة المتأخرة” غير دقيقة، والعتمة ليست نتيجة ظرف طارئ، بل حصيلة احتكار منظّم، وتزوير في المنشأ والفحوصات، ومناقصات مفصّلة على قياس كارتيل محدد. العتمة، بكل بساطة، هي نتيجة منظومة فساد متجذّرة، لا نتيجة تأخير في سفينة.

