"ليبانون ديبايت" - نوال نصر
إلى طرابلس سرّ. أمطار “كوانين” لم تُبهت حروف اليافطات المعلّقة في فضاء عاصمة لبنان الثانية. صور الرئيس أحمد الشرع تزيد عن صور الرئيس جوزيف عون وعن كل صور زعماء المدينة التاريخيين والحاليين. وعبارة معلّقة تروي ما في القلوب من شجون: “نمّ قرير العين يا معاوية، فدمشقُ لنا إلى يوم القيامة”. إننا في كانون. مضى عام على تحرير سوريا من نظام الأسد. كم يُمضي الوقت سريعًا. وفي كانون هذا إعلان متجدّد من طرابلس الفيحاء: “أرض الحضارة ما بتنحني، بتنفض غبار الظلم وبتوقف شامخة”. يبدو، أقله في الشكل، وكأن هذه العبارة مستقاة من كلام “توم براك”: “يجب أن نجمع سوريا ولبنان معًا لأنهما يمثلان حضارة رائعة”. ما لنا ولـ “براك”. فلنعتبرها صدفة ولنعد من فضاء طرابلس ويافطاتها إلى أرض الواقع.
إذا تكلّمنا طائفيًا، فطرابلس فيها كنائس وأديرة بقدر ما فيها جوامع. ثمة أرثوذكس وموارنة وشجر ميلاد و”دقّ جراس” إلى جانب صوت الأذان. طرابلس، على عكس كل ما يُشاع عنها، قادرة أن تجمع. ومشهد بعض “الأصوليين” الذين يتمخترون في المدينة لا يعكس الجوهر. طرابلس لبنانية “إحّ” بمنطق من يعرفونها. رئيس القسم الديني في دائرة الأوقاف الإسلامية الشيخ فراس بلوط يستغرب كل الكلام عن “سورنة” طرابلس والإصرار على وسمها بمدينة تُصدّر الإرهاب ويقول: “فلنُميّز بين العاطفة والعقل. فإذا صحّ أن هناك من يتبع عاطفته ويُهلّل لسوريا الكبيرة في طرابلس فإن منطق العقل يبقى الغالب. الناس يبحثون عادة عن بطل. وطائفتنا منكوبة، لا مرجعية سياسية ودينية واضحة لها، لذلك رأت في أحمد الشرع بطلًا. والتظاهرات المؤيدة له والصور التي تُرفع هي مجرد ردّات فعل عاطفية بديهية. في العقل، لا نلوم الناس بل ندرك تمامًا أنهم لا يؤيدون أحمد الشرع رئيسًا ولا سوريا دولة لهم، لكنهم يبحثون عن صورة زعيم وعن خلاص. ثمة شباب في طرابلس لا يملكون في جيوبهم ثمن قنينة عصير. فكيف لنا أن نلومهم “إذا كان ربّ البيت بالدفّ ضاربًا، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”.
حال طرابلس حال. الكلّ يعرف، ومن زمان، الإهمال الذي لاحقها كما الظلّ. هناك أعلى نسبة فقر مدقع بين الطبقة الكادحة، في موازاة طبقة من أغنى أغنياء العالم. إنه الفصام. فكيف لنا أن نحاكم طرابلس لأنها تبحث عن بطل ينشلها من واقع مزرٍ مستديم؟ وهل هذه المشهدية تجعلنا نتأكد أنه إذا أتى من يطلب من مسلمي طرابلس سورنة مدينتهم فسيرحّبون؟
لم ينسَ كثيرون الشاب الطرابلسي الناشط إبان ثورة تشرين بلال مواس. ديناميّ جدًا، يستمرّ رافعًا علم سوريا الحرّ وصور الرئيس أحمد الشرع نراه. هو احتفى بمرور عام على تحرير سوريا. لكن فلنتمهّل، هذا لا يعني البتة أنه، وأقرانه، يرحّبون بسورنة المدينة، ويقول: “نحن نحب أحمد الشرع لأنه رفع الظلم عن سوريا ورفع أيدي الظالمين السوريين عن طرابلس، لا أكثر ولا أقل”.
بلال مواس يعرف جيدًا الأرض ويقول: “ليس من الوارد لا لوجستيًا ولا اجتماعيًا ولا سياسيًا ولا أمنيًا ضمّ مدينتنا إلى سوريا. الشعب اللبناني، بغالبيته، متعلّق إما بسوريا أو إيران أو أميركا، فهل يُضمّ كل قسم إلى الخارج؟ حين ظُلمت أرمينيا من أذربيجان هبّ أرمن لبنان لمناصرتها، فهل يجوز تجريد هؤلاء من لبنانيتهم؟ هذا ما حصل يوم حرب البوسنة والهرسك، وهذا ما تكرّر يوم اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. اللبنانيون يتفاعلون بطبيعتهم مع ما يحصل في الخارج. لكن كلما وصل الأمر إلى “ذقن” أهل السنة تقوم القيامة وتسري التأويلات وتُعلن نوايا غير صحيحة. وهذه مقولة متداولة تختصر، برأي مواس، الواقع: “الإرهابي بريء حتى يثبت إسلامه”. لا، لسنا لا إرهابيين ولا داعشيين ولا نصرة. نحن مواطنون من مدينة طرابلس بحثنا طويلًا عن دولة ومرجعية وأُعجبنا، نعترف، بأحمد الشرع. لكن هو سوري ونحن لبنانيون. ونقطة على السطر”.
نمشي في شوارع طرابلس وأزقّتها. نشمّ رائحة الليمون. نتنشّق الهواء العليل. ثمة سعي دؤوب في المدينة، من المسلمين قبل المسيحيين، من أجل تكريس العيش معًا في المدينة. صحيح أن في المدينة تنوّعًا. فيها من ينادون بالأسلمة والجزية كما حزب التحرير، لكن هناك من ينشدون المحافظة على التنوّع. ومع الفئة الثانية يُرسم المستقبل. البارحة، قبل أيام قليلة، هناك من حاول إحراق شجرة الميلاد في طرابلس. في العام 2023 هناك من أحرق الشجرة، وفي 2022 أيضًا وأيضًا. ومن يفعل هذا، بحسب الشيخ فراس بلوط، “ليس سوى شخص رخيص، سكير، يُشترى ويُباع بعشرين دولارًا. طرابلس يا عالم أشدّ الأشخاص فيها تعصّبًا أو جهلًا يهرع لمساعدة من يحتاج. طرابلس جميلة، فيحاء، لبنانية، وتبقى”.
يتكلّم “الثائر” والشيخ والكبير والصغير عن طرابلس لبنان ويتباهون. فلماذا “القواص” الدائم على المدينة وأهلها بحجة “سورنتهم”؟ هي أصوات نشاز تطلق من خبثاء وأصحاب أجندات يريدون تخويف الآخر من المسلم. هناك “العاطل” بالطبع، لكن هناك، لدى الغالبية الساحقة، انتماءً لبنانيًا حقيقيًا، حتى ولو لم يكن لبنان يبالي، كما يجب، بطرابلس وأهلها. في كل حال، استنادًا إلى الباحث في تاريخ طرابلس والمجاز في علم الأنساب فؤاد طرابلسي، “فإن الكلام المتكرر عن سورنة طرابلس ليس ذا قيمة، ولا أساس قانوني أو عقلاني له”، ويستطرد: “يبدو وكأن هناك من يصرّ اليوم على جسّ النبض حول هكذا شائعة، لكن ردة فعل الناس وتفاعلهم يؤكد أن السني الطرابلسي غير السني السوري. في كل حال، لا يجوز الحكم على الطائفة السنية من خلال أقاويل. في كل حال، هناك مستندات، من القرن السابع عشر، تؤكد أن ولاية طرابلس وصلت ذات يوم إلى حدود الأردن. كانت قائمة بذاتها. وأي كلام عن نسبها إلى سوريا أو سواها هراء”.
فلننسَ. فلنحاول أن ننسى. لكن لماذا لا نسمع أصوات الفعاليات والقيادات الطرابلسية ردًا على من يُشكّك بانتماء المدينة؟ مشكلة طرابلس يا عالم كانت وتبقى أن فيها طبقة غنية، غنية جدًا، لم تُبالِ بشريحة الفقراء الواسعة. بل هناك من تباهى من أغنياء المدينة بأن لطرابلس جذورًا سورية وتركية. ألا تتذكرون “حراك” الأفندي فيصل كرامي نحو تركيا قبل أعوام وقوله إن ثلث سكان طرابلس قد يكونون من أصول تركية؟
نجول في طرابلس. رائحة التراب تختلط عند كل شتوة مع رائحة النفايات التي تتراكم في جنباتها في أحيان كثيرة. صور الشيخ سعد بهتت مع مرور الزمن. صور الرئيس الشرع تطلّ من الشرفات وعلى الأعمدة. والتحيات من دمشق إلى طرابلس وبالعكس تتكرر في يافطات. وجدان سنّة طرابلس مع سوريا ولا أحد يُنكر. لكن طرابلس، التي تشعر اليوم أنها تحرّرت من طغيان بيت الأسد وعناصر سرايا المقاومة الذين كانوا ينتشرون في الأحياء ليُمسكوا برقاب الأهالي، تريد من الجميع أن يروها كما هي لا كما كُتب لها أن تكون.
ها نحن نعبر، بعد أيام قليلة، إلى سنة جديدة. وها هي سوريا قد تحرّرت. ها هي سرايا المقاومة قد باتت “بلا عمل”. وها هو وجدان السنّة في لبنان مع سوريا الجديدة. والوجدان شيء والانتماء شيء آخر. وما عدا ذلك، كل كلام عن حالات انفصالية ليس إلا من باب العبث وجسّ النبض. نحن جسسنا النبض وخرجنا بيقين: طرابلس لبنانية “إحّ”.