كشف الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة الجزيرة بعنوان "اختراق من الداخل" الوجه الخفي لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، مسلطًا الضوء على سلسلة اختراقات داخلية هزّت ما يُروَّج له باعتباره “أقوى حصن أمني في العالم”، وكاشفًا قصص جواسيس عملوا من داخل المؤسسات الإسرائيلية الحساسة، مسببين أضرارًا استراتيجية جسيمة لا تزال بعض تفاصيلها طي الكتمان.
واستعرض الوثائقي حكايات صادمة لعملاء لم يكتفوا باختراق الشاباك من الخارج، بل تسللوا إلى عمقه أو شغلوا مواقع شديدة الحساسية داخل الدولة، ما أدى إلى تقويض منظومات أمنية كاملة وإجبار الأجهزة الإسرائيلية على تغيير أساليب عملها.
تُعدّ قضية ليفي ليفي من أكثر الملفات التي تثير غضب قادة الشاباك السابقين. فقد تمكن المهاجر اليهودي البولندي، الذي وصل إلى إسرائيل صيف عام 1948، من العمل لمدة 11 عامًا داخل قسم العمليات في الشاباك بين عامي 1948 و1957. وبحسب شهادات ضباط سابقين وردت في الفيلم، كان مكلفًا بزرع أجهزة تنصت في سفارات دول أوروبا الشرقية، لكنه كان في الواقع يزوّد الاستخبارات البولندية بتفاصيل تلك العمليات، محذرًا إياها مسبقًا من التحركات الإسرائيلية، ما أتاح لها تضليل الجهاز لسنوات طويلة.
ووصف المحلل الاستخباراتي يوسي ميلمان اختراق ليفي بأنه أشبه بـ"الذئب الذي أُوكلت إليه حراسة الحليب"، مشيرًا إلى أن دوافعه كانت مالية بحتة، إذ عاش حياة مرفهة بفضل الأموال التي تلقاها، قبل انكشاف أمره واضطرار الشاباك إلى تغيير أسماء وأساليب عمل واسعة.
ولم تتوقف الاختراقات عند حدود الأجهزة الأمنية، بل وصلت إلى قمة الهرم السياسي. فقد سلط الوثائقي الضوء على الجاسوس إسرائيل بير، الذي هاجر إلى إسرائيل في أوائل الأربعينيات، ونجح في الصعود ليصبح ضابطًا كبيرًا ومستشارًا خاصًا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع المؤسس ديفيد بن غوريون.
واستغل بير مكانته الرفيعة وسمعته كخبير استراتيجي ومؤلف لكتب عسكرية ومحاضر موثوق في المحافل الأمنية، ليطلع على أدق الأسرار العسكرية والاستشارية داخل مكتب رئيس الوزراء. واستمرت خدعته حتى عام 1961، حين أُلقي القبض عليه متلبسًا أثناء تسليمه ملفات حساسة لمشغله في السفارة السوفياتية، ليتبين لاحقًا أنه سرّب معلومات خطيرة عن وزارة الدفاع والاستخبارات. واعترف بير بأن دافعه كان إيمانه بأن الاتحاد السوفياتي يمثل القوة الأهم عالميًا. ووصفه رئيس الشاباك الأسبق يعقوب بيري بأنه من أخطر الجواسيس وأكثرهم إضرارًا بالأمن الإسرائيلي، وهو ما يفسر الحكم القاسي بسجنه 15 عامًا وسط تكتم شديد على حجم ما سرّبه.
كما استعرض الوثائقي حالات أخرى لاختراقات طالت مواقع شديدة الحساسية، بينها شمعون ليفينزون، الذي شغل منصب ضابط أمن في مكتب رئيس الوزراء، واستغل موقعه في التسعينيات لبيع أسرار الدولة العليا، بما فيها ما يدور في الغرف المغلقة للمجالس الوزارية المصغرة، لصالح السوفييت مقابل المال.
وتناول أيضًا قضية غونين سيغيف، وزير الطاقة الأسبق، الذي جندته الاستخبارات الإيرانية عام 2012، وزوّدها بمعلومات حساسة تتعلق بقطاع الطاقة والأمن.
أخطر ما كشفه الفيلم تمثل في اختراق المؤسسات العلمية المحصنة. فقد وُصف ماركوس كلينبيرج، العالم في المعهد البيولوجي، بأنه "الجاسوس الأخطر"، بعدما سرّب على مدى عقود أسرار الأسلحة البيولوجية والكيميائية إلى السوفييت بدوافع أيديولوجية سعى من خلالها إلى ما سماه “تحقيق التوازن الدولي”.
كما تطرق الوثائقي إلى البروفيسور كورت سيتا، عالم الأشعة الكونية في معهد التخنيون، الذي جندته أجهزة استخبارات تشيكية وسوفياتية للحصول على معلومات تتعلق بالبرنامج النووي الإسرائيلي في بداياته.
وفي السياق ذاته، أعاد الفيلم تسليط الضوء على قضية مردخاي فعنونو، الفني النووي الذي كشف القدرات النووية الإسرائيلية للعالم عبر صحيفة “صنداي تايمز” عام 1986.
وبذلك، قدّم وثائقي "اختراق من الداخل" رواية متكاملة عن سلسلة اختراقات عميقة ضربت بنية الأمن الإسرائيلي من الداخل، وكشفت هشاشة المنظومة التي طالما قُدّمت على أنها عصيّة على الاختراق.