"ليبانون ديبايت" - ملاك عقيل
رسميًا وصلت العلاقة بين رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون والنائب جبران باسيل الى نقطة اللاعودة. في السياسة لا شيء ثابت ودائم. المتحرّك هو القاعدة. لكن حين تصل الامور الى حدّ المعايرة المتبادلة على قاعدة "بفضلي وصلتم الى الرئاسة، وبفضلي كُتِبَ لكم عمرًا جديدًا"، وحين تصبح لغة الحاضر نبش قبور التخبيصات في السياسةِ يصبح الحديث عن احتمال ترميم التصدّعات في العلاقة الثنائية غير واردٍ على المدى القريب كما البعيد.
أصلًا ليس هناك من يسعى من الجانبَيْن الى اصلاحِ ما جَنَته التسوية الرئاسية بحق شريكيّ التفاهم الرئاسي. لا بل أنّ الخلافَ نفسه سيكون وقود المرحلة لتعزيز موقعِ كلِّ طرفٍ.
سعد الحريري من موقعِ المُعارِض الاوّل في الجمهورية بعدما كان "العريس" الذي زفَّ ميشال عون رئيسًا الى قصر بعبدا بعد تخليه عن "مغامرتهِ" الاولى سليمان فرنجية. وجبران باسيل من الموقع الموالي الذي يدير ممثليه في الحكومة عن بعدٍ... وربما الحكومة برمّتها. خطابه في البرلمان الذي تضمَّن الكثير من الاملاءاتِ يوحي بذلك!
ولّت ايام العسل والانسجام والاستيعاب المتبادل للزلّات والسقطات. وها هو الحريري يوقِّع بيده كتيّب "السياسات الحريرية ومسلسل التعطيل" في مواجهةِ كتابِ الابراء المستحيل، وخلاصته أنّ هذا المسلسل الذي لازم الحكومات الحريرية يتحمَّل مسؤولية اساسية في وصول الدين العام الى ما وصل اليه والى حالةِ التردي السياسي والاقتصادي.
ما حُكيَ دومًا عن أنّه خميرة لتفاهماتٍ مُمْكنة في الرئاسةِ والتعيينات بين التيّار "البرتقالي" وتيار المستقبل منذ لقاء الصفحة الجديدة في روما في كانون الثاني 2014 تعرَّض لاحقًا لمطبّات ٍتدحرجت خلالها العلاقة من شبهِ التحالفِ الى فقدان الثقة وقطع جسور التواصل... وصولًا الى الحرب المُعلَنة من الجانبَيْن.
سيصعب جدًا رؤية جبران باسيل مجددًا راكبًا الدرّاجة البرتقالية اللون الخاصّة بسعد الحريري. هذا إن كان لا يزال يملكها ولم تنضمّ الى لائحةِ ما خسره زعيم السُنّة في الأعوامِ الاخيرة. باسيل الذي ظهر في حزيران 2015 بصورةٍ من مرآبِ منزل "الشيخ سعد" في جدّة حين استضاف الاخير وفدًا لبنانيًا رسميًا برئاسة رئيس الحكومة الاسبق آنذاك تمام سلام كان يُمهِّد لـ "صفقةِ العهدِ" وسط تفرّج المملكة العربية السعودية وغضّ نظرٍ دوليٍّ.
والحريري الذي كان يفتش عن استعادة الدور والموقع، وجدَ في الشريك المسيحي القوي ضالته. اكتملت السيبة بنادر الحريري، مايسترو التسوية والتحالفات الانتخابية لأيار 2018، الرجل الذي لحظة خروجه من بيت الوسط بُعَيْد الانتخابات النيابية "تكركبت" بعده التسوية وشهدت أسوأ إدارة لها بشهادةٍ حتى من أهل البيت وصولًا الى حدّ نشر الغسيل الوسخ على السطوحِ.
الثأر المؤجَّل، دَفَعَ الحريري قبل أيّامٍ الى القول "في ناس بتعطي وان واي تيكيت وهيّي مش قدها". صَبَر الحريري تسع سنواتٍ وبقّها. من منفاه السعودي بعدما أطيحت حكومته وعبّدت الطريق لحكومة نجيب ميقاتي الى السرايا سمع الرئيس "السابق" سعد الحريري ميشال عون في حزيران 2011 يجاهر بأنّ حكومات الحريري "كانت لافقار لبنان وشلّ المؤسسات ووضع اليدّ عليها. هذه الخطة انتهت. قطعنا له ورقة "One Way Ticket" وذهب لن يعود". هي اليد نفسها التي فاوض عون للامساك بها مجددًا معبرًا الى رئاسة الجمهورية.
ذهبَ.. وعادَ الرجل. واحتُضِنَ من قبل "بيّ الكل" "سعد ابني نبقى معًا أو نذهب معًا". لكن مرة أخرى تُقطَع له ورقة ذهابٍ. هذه المرّة، يقول مطلعون، أنّ الحريري نفسه ساهم في "حجز" البطاقة بعدما تشدَّدَ في شروطهِ "كان يمكن لسعد الحريري أن يحظى بحكومة شبيهة بالتي يرأسها اليوم حسان دياب. وجوه جديدة ونظيفة، لكنه أصرّ على أن تكون له الكلمة الفصل في الاسماء. يعدّ التشكيلة ويعرضها على رئيس الجمهورية من دون أن يستشيرَ عين التينة والضاحية وبعبدا. هذا ضربٌ من الخيال. غالب الظن أنه لا يريد اصلًا أن يكون في بوز مدفع المواجهة في هذه المرحلة المصيرية.
أولى الضربات القاسية التي تلقّاها الحريري من شريك التسوية ولادة حكومة العهد الاولى التي خَسِر فيها تيار المستقبل امتيازات عدّة منها تكريس بقاء وزارة المالية بيد الطرف الشيعي وتحجيم الحضور الوزاري لـ "جماعة الحريري" إذا ما قورنَ بحصّةِ العهد وحلفائه التي وصلت الى 17 وزيرًا، ودخول شخصيّاتٍ مُستَفِزّة للحريري كسليم جريصاتي ويعقوب الصرّاف إلى حكومةٍ برئاسة الحريري...
وتوالت النكسات وسط موجةٍ من التحليلات والكثير من الوقائع التي كانت تشير إلى حجم التنازلات التي يقدّمها الحريري لفريق العهد من أجل أن يبقى على رأسِ رئاسة الحكومة.
وهي تنازلات قادت العديد من قيادات "المستقبل" الى رفضها، علنًا وسرًا، وأبعدت عنه من كانوا من صقور الحريرية أولهم نهاد المشنوق. محنة الاحتجاز في السعودية أعادت لمّ الشمل العوني - المستقبلي الذي كان بدأ تضارب التوجهات بين الحريري وباسيل داخل الحكومة ربطًا بملفات الكهرباء وغيرها من ملفات النزاع ينهش بنواة التسوية من خلال الاتهام المتبادل بالتعطيل.
لم تكتمل الصورة سوى بجولات الكباش حول قانون الانتخاب وتحالفاته وتركيبة اللوائح. على الارجحِ، نَدَم الحريري جدًا على "الوعظةِ" التي أطلقها قبل أيّامٍ من الانتخابات النيابية في أيار حين دعا مناصريه الى إعطاء صوتهم التفضيلي لـ "صديقي جبران" في الكورة والبترون.
عمليًا، إنتهت معركة الحريري في دائرة الشمال الثالثة بخسارةٍ مدوّية لم يكن يتوقعها بسقوط نقولا غصن في الكورة. في زحلة لم يكن الحال أفضل بعدما حمَّلَ الحريري باسيل مسؤولية خسارة المقعد الأرمني على لائحتهِ بسبب المال الذي أغدقه المرشح على لائحة التيار الوطني الحر ميشال ضاهر، وتمكّن عبره من الاستيلاء على عددٍ من أصواتِ السُنّة.
وكثر يجزمون، أنّ إحدى المعارك الاساسية التي خسرها الحريري "حكومة الـ 24" في الحكومتَيْن الاولى والثانية بسبب رغبةِ فريق العهد في تضخيم حصتهِ في الحكومة، وطبعًا كان سيواجه المعضلة نفسها في حال التكليف الثالث.
يقول قريبون من الحريري، "حكومة الـ 20 لحسان دياب لم يكن ليحلم بها سعد الحريري". عمليًا، الكباش في مرحلة ما بعد التكليف الثاني للحريري وولادة حكومة لم تعمّر سوى تسعة اشهر بعدما نَسَفها الشارع كانت تحمل أصلًا في طياتها بذور الانفجار والتصدع على وقعِ الكباشِ الحادّ بين الحريري وباسيل.
قبل ذكرى 14 شباط، قدَّمَ "الحريريون" دفعة على الحساب للمدى الذي يمكن أن تأخذه المواجهة بين الطرفَيْن. مضبطة اتهام كاملة بحق "هواة الحروب العبثية، من المفطورين على وهم إلغاءِ الآخر، كمنهجٍ بدأ في أواخر ثمانينات القرن الماضي". في ذلك، استعادة لأساسِ الخلافِ مع الفريق المسيحي وطرف خيطه ميشال عون قبل جبران باسيل.
ولن يكون تفصيلًا النبش في ملفات الحرب والتقاتل المسيحي الذي مهَّدَ لدخول السوريين وإسقاط هذه المرحلة على الواقع الحالي بالاشارة الى "معاركٍ عبثية إلغائية بخطابٍ عنصريٍّ وطائفيٍّ بغيض يتميَّز بشعبويّةٍ ساذجة تتوهّم القدرة على اعادة عقارب الساعة الى الوراء بحثًا عن زعامةٍ واهيةٍ"، والحديث عن مكائدٍ سياسيّةٍ تعرَّض لها سعد الحريري، مرفقًا بالاعلان الرسمي عن الانتقال الى "المعارضة البناءة".
ويجزم الحريريون، "هذه المرّة الخروج من السرايا لا يشبه العام 2011. معركة الحريري الاساسية ستنطلق من بيتهِ الداخلي بالتزامن مع انتهاجِ مسارٍ مُتَجدِّدٍ في التعاطي السياسي يستفيد من أخطاءِ الماضي، مع التسليم بأنّ العهدَ انتهى قبل اوانهِ وإكرام الميت دفنهِ... مع الرهان على برنامجِ عملٍ سياسيٍّ ماليٍّ اجتماعيٍّ يُحاكي ما افرزته انتفاضة الشارع منذ ثلاثة اشهر".
|