"ليبانون ديبايت" - قاسم يوسف
يرفض نهاد المشنوق أن يجلس على ضفة النهر منتظرًا جثة خصومه. يرفض المحاكاة البلهاء لأزمة أخذت تسلك طريقها نحو جذرية تتخطى الأشخاص والصغائر والظرفيات العارضة المحكومة بآنية اللحظة، بل وتسبقهم جميعًا إلى أصل الحدث وتفرعاته وأثاره المدمرة على المكتسبات السياسية والوطنية، وعلى سُلّم القيم والقواعد والأصول.
لو قدر لنا أن ندلو بدلونا قبل اطلالته الأخيرة، لاقترحنا غض البصر والنظر على ارتطام الاخوة الأشقاء فوق الضريح وفوق الدم وفوق الهزيمة النكراء، لكننا نعرفه، نعرف عقله وطباعه وإصراره على معايير لا تقبل الازدواجية تحت مسميات المصلحة الشخصية أو الرغبة الثأرية، وهو كان سيفعل تمامًا ما فعل، غير آبه بكل ما قد نورده على مسامعه من سلبيات هائلة، ليس أقلها فتح معركة مجانية بوجه الزائر الجديد، وهي معركة بلا طائل ولا أفق ولا ضرورة، والأرجح أنها ستفجّر في وجهه مزيدًا من الحقد والضغائن والاستعادة الدورية للسمفونيات الممجوجة والروايات المستهلكة والاستهدافات الظالمة.
كان أهون على نهاد المشنوق أن يصمت وينتظر هدوء العاصفة، بل أن يساهم على طريقته وخياراته المفتوحة في تسعير الاشتباك بين الأخ وأخيه، على قاعدة أنه المستفيد الأول من التناطح المعيب، لكنه لم يفعل، ولم يصمت، ولم يتخذ من المتحرك المستجد نافذة يطل عبرها للشماتة أو الثأر, بل ظل كما عرفناه ونعرفه، مترفعًا عن الصغائر، ورافضًا لمعارك مطعونة في قيمها وأخلاقياتها. صحيحٌ أن هذا كله لن يغيّر قيد أنملة في اشتباكه المفتوح، وفي اختلافه وتمايزه العلني مع سعد الحريري، لكن ذلك لا يبيح الاستثمار الرخيص في منزلق وضيع يفتقد لأدنى المعايير التي يُحدد على أساسها طبيعة معاركه، بعيدًا من الانتهازية أو المواربة.
تصريحه بالأمس هو تبرئة لنا أيضًا، نحن من نواظب على صداقته ونعض عليها بالنواجذ. طالما أتُهمنا على مدى سنوات، واستعرت في وجهنا حملات الاستهداف والتنمّر والطعن في الكرامات، وتحوّلت العصابات الالكترونية الممنهجة إلى محاكم ميدانية تُحاكم انحيازنا الدائم اليه في الأيام العجاف، وكأنها محاباة أو استرزاق، بينما كنا معه في مركب واحد، نعرف وندرك دقائق الأمور وتفاصيلها، ونترك للتاريخ أن ينصفه وينصفنا على النحو الذي يريده ويشتهيه.
نهاد المشنوق هذا عصيّ على الشيخوخة أو الاندثار. هو صانع الأسئلة وساحرها. ثاقب الفكر وثاقب الوعي وثاقب الممارسة. يبرع دائمًا في مقاومة السائد، وفي مقاومة ما يُراد له أن يسود. هذا بعضٌ من أضلع كثيرة جعلتنا ننجذب إليه. نتماهى مع رجاحة عقله وحصافة رأيه، ثم حين نختلف في السياسة وغيرها، نشعر أن اختلافنا يكتسب مركزيته وجدليته القصوى، استنادًا إلى واجبه السجالي المتفرع من مرونته ورشاقته ومنطقه المستنير، لا من موروث مستنقع أو تعنت عبثي يتغذى على أحادية الرأي وصدامية التفكير، ولذلك اعتقدنا، ولا نزال، أن صلة الوصل معه أقوى من البروباغندا وأعتى من الشعبويات وأكثر متانة وعمقًا ورساخة من اللقاء العابر أو المصلحيات المتقاطعة على هوامش العلاقات الشخصية أو الحيز العام.
لست هنا في موقع الدفاع السياسي عن شخصية طبعت وجه عُمري على نحو لا يخلو من العاطفة الأبوية ومشاعر الود ومنتهى الاحترام والتقدير، وشهادتي مجروحة بطبيعة الحال، لكنني قررت أن أودع رسالتي هذه في ذمة الحاضر والتاريخ، في محاولة متواضعة ومستدامة لإنصاف هذا الرجل الذي لو قُدر لي أن أكتب آخر مقال على الإطلاق، لكتبته حتمًا عنه، ولبدأته بذاك الشطر والعجز من رائعة الشاعر الأردني الكبير: إن يحرقوا كل النخيل بساحنا، سنطل من فوق النخيل نخيلا.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News