"ليبانون ديبايت" - عبد الله قمح

إذا بقيَ المرسوم رقم 6433 على قيد الحياة حتى منتصف شهر أيار المقبل، التاريخ التقريبي لبدء استخراج النفط من حقل "كاريش"، نكون قد حقّقنا إنجازاً، لماذا؟ لأننا نكون قد سحبناه من "مضيق الفيلة" وأعدنا وضعه على الصراط المستقيم! الآن، وفي ظل تآكل المهل ومخاطر ضياع الحق اللبناني في زحمة مصالح المجانين، هل يصبح ذلك متاحاً؟

عملياً لا، كون السياسة ما دخلت أمراً إلا أفسدته، وهذا ينطبق على الدخول على خط الـ 6433، إذ تعرّض منذ اللحظة الأولى إلى هبوب رياح مصلحية فردية عاتية، عرّضته لأضرار شتّى، وفي النهاية أخرجته عن طبيعته الشاملة ومهمته الأساسية كونه عنصراً وظيفته تحديد حقوق لبنان لا المساومة عليها. ولو أبقينا السياسة منزوعة عن التعاطي بهذا الملف، ومُنحت الصلاحية الكاملة إلى العسكر، أو بالحد الأدنى كانت السياسة متناغمة مع العسكر من حيث الحرص على حفظ حقوق لبنان، لربما كنّا أنقذناه، أو سلكَ مساراً مختلفاً.

في الواقع، مسار التنازلات لم يبدأ اليوم، بل هو مسار طويل بُوشرَ العمل به منذ لحظة إنشاء الكيان، وكان عادةً يخضع لاستنسابية الحاكم أو المجموعة الحاكمة، وليس سراً أن بيننا سياسيين من فئة "تجّار"، إذ لا رادعَ لهم في المساومة على مياه وأراضٍ متى اقتضت مصلحتهم السياسية ذلك، وفي حال جرى نبش مضامين الحوارات مع الزوار والموفدين الأجانب داخل الغرف المغلقة، لعثرَ على أنواع مختلفة من التنازلات، الجاهزة والمعلّبة، وتلك المجمّد العمل بها حتى تنضج الظروف.

لم يعد سراً أن تعديل المرسوم 6433، أضحى خارج التداول المنطقي، إن لم نقل خارج حسابات القوى السياسية واهتماماتها. لقد أُسقط بالضربة القاضية، وأُنجزَ الإنقلاب على دراسات قيادة الجيش على الملأ، بالتكافل والتضامن بين جميع القوى السياسية تقريباً، التي عملت على قذف قيادة الجيش إلى الواجهة، ومن الخلف كانت تجهد في سبيل تأمين مكتسباتها على ظهر "تعب" ومجهود اليرزة، وفي النهاية جهّزت نفسها للبيع بانتظار الشاري!

والفضل في كل ذلك يعود إلى المطامع والمصالح السياسية الضيّقة لدى البعض، بدليل أن ما افتُعل بحق المرسوم كما قيادة الجيش على السواء، يعمل العدو الإسرائيلي على الإستفادة منه على أفضل صورة ممكنة الآن، بدليل نقله "الخط الأحمر" ذات الرقم 310، والذي ظهر للمرّة الأولى على صورة تهويلية في الإعلام في تشرين الثاني الماضي بإطار الردّ على خط قيادة الجيش ذات الرّقم 29، من إطار إعلامي صرف إلى حقيقة، ومؤسّساً في ضوء ما نشره عبر "جيروزاليم بوست" أمس الأول، إلى جعل خط 310، خطاً رسمياً مطروحاً على التفاوض عند ضمور الأسباب المانعة لاستمرار جمود الجلسات غير المباشرة في الناقورة.

وللحقيقة، إن جرعة الدعم التي تلقاها العدو حين تقرّر وقف العمل بمضمون التعديلات على المرسوم 6433، وهو ما أُبلغ به مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد هيل، حين زار بيروت مؤخراً، بالإضافة إلى استشرافه طبيعة الخلاف الداخلي اللبناني حول التعديلات، قد مكّنه من رفع الضغط إلى أقصاه، وتوظيف الجانب الأميركي في سياق زيادة الضغوط وممارسة التهويل، ما ساعد على تقدّمه خطوة إلى الأمام على حساب الجانب اللبناني، في إطار تعزيز الأوراق قبيل العودة المرتقبة إلى طاولة المفاوضات، والذي يبدو أن الجانب اللبناني سيدخلها منزوعاً من مصادر القوّة، ما أتاحَ لـ"هيل" تسويق وعده الذي أطلقه في بيروت، على قاعدة أن التخلّي عن التعديلات المقترحة على المرسوم 6433، أي عملياً التخلّي عن المطالبة بالخط 29، يسهّل العودة إلى المفاوضات غير المباشرة، وهو ما ينطلق منه رئيس "تكتل لبنان القوي" جبران باسيل في محاولة وضع اليد على المفاوضات ووراثتها عبر إنجاز تغييرات عميقة، سواء على المقترحات التي يتوقّع أن تُطرح وطبيعة الوفد المفاوض، ظناً منه أن تلك التغييرات يستطيع من خلالها الوصول إلى رسم خط مختلف عن كل الذي يُطرح من خطوط يعتقد أن موقعه بين الخطين 23 و 29، فيُحسب الإنجاز له.

وعليه، يظن أنه قد أوقعَ قيادة الجيش بـ"كمين بحري" بفعل إدراجه تعديلات قابلة للعزل على الرسم البياني للخط 29، من خط سيادي ذات سقف يؤمّن أقصى حقوق لبنان إلى خطٍ للتفاوض يسهل عبره الوصول إلى إتفاق.

الآن، وبمعزل عن كل ذلك، وفي ضوء المتغيّرات التي حصلت على المستوى "الإسرائيلي"، لا بدّ للجانب اللبناني من التصرّف. عملياً، الوفد المفاوض تعرّض لانتكاسة. صحيح أنه يلوذ بالصمت، لكن صمته معبّر.

دون أدنى شك، لم يكن ليتصوّر هذه النهاية لما سعى للوصول إليه طوال أشهر من الجهد والعمل، ولعل أكثر المتشائمين، لم يكن ليتوقّع أن يتم اغتيال فرص إدخال تعديلات على المرسوم 6433 بهذا الشكل، وأن يتحوّل المرسوم إلى بازار للتفاوض. وهنا، لا ريب من أن الوفد المفاوض مُطالب، حين انقضاء مهلة التعديلات على المرسوم، بموقف على وزن ما افتُعل بحق مساعي قيادة الجيش وبحق جهوده، أقلّه إعلان الاستقالة في حالة العودة إلى المفاوضات وفق قاعدة وقف العمل بمفاعيل الخط 29 واعتباره لم يكن، أو الاصرار على التفاوض على جميع الخطوط دون إستثناء، من مبدأ قوة القانون الدولي والحق في نقاش كائناً من يكن من الخبراء لاثبات هذا الحق ورمي الكرة للسلطة السياسية لاتخاذ القرار بما تملي عليها وطنيتها، اذا كانت تملكها.

بصرف النظر عن ذلك، ما زال الجانب اللبناني يتمتع بخيارات عدّة للرّد على التوغّل الإسرائيلي عبر الخط 310 نحو عمق المنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة. عملياً، عمد العدو الإسرائيلي إلى اعتماد "الخط العامودي" لرسم الخط 310 الذي يوصل بين النقطتين البحريتين 7 و 12.

في المقابل، يستطيع الجانب اللبناني الإستفادة من القاعدة نفسها، والإنطلاق بالترسيم من البرّ، لكن بشكل أفقي موازٍ للحدود البرّية عند رأس الناقورة، ما يمكّنه من اعتماد خط العرض رقم 270 خطاً للترسيم، وهو ما يمنح لبنان نحو 5200 كيلومتراً مربعاً اضافية تقع إلى الجنوب من النقطة 23، وهو خط يمكّن الجانب اللبناني من قضم مساحات شاسعة من حقل "تامار"، الذي وقّعت شركة إماراتية مؤخراً صفقة قضت بشراء حصة شركة إسرائيلية بمبلغ تجاوز المليار دولار أميركي، وحقلي "تانين" و "لوفاتيان"، بالإضافة إلى حقل "كاريش"، الذي يصبح واقعاً بشكل كامل داخل الحصّة اللبنانية، وذلك رداً على قضم الخط الإسرائيلي التهويلي المرسوم من دون الإستناد إلى مرجع ترسيمي واضح لكامل البلوك رقم 8، وأكثر من نصف البلوكين 5 و 9 اللبنانيين.