"ليبانون ديبايت" - روني ألفا

أراجِعُ بشيءٍ من الحسرَة قناعَتي بأنَّ الإنسان طيِّبٌ بالفِطرَةِ ويَسوءُ بالعِشرَةِ والمُخالَطَة والتَّثاقُف على ما كانَ جان جاك روسو يروّجُهُ في فلسفَتِه الأخلاقيَّة. روسو نفسُهُ لَم يرفّ له جِفنٌ حينَ أودَعَ أولادَه مأوى للأطفال المشرَّدين بحجَّةِ عدم أهليَّتِهِ في الإضطِلاعِ بمهمّة ورسالَة الأبوَّة.

لَم يكن روسو في طفولَتِهِ معنَّفًا أو متنمَّرًا عليه أو مغتَصَبًا وهذا الحظّ في ولادتِه لم يكن كافيًا لردعه عن التخلّي عن أبنائِه الذين هم من صلبِه. "دارٌ للأطفال الضائِعين" كما كان يَحلو له توصيف المكان الذي أوى هؤلاء الأطفال الأبرياء وهو توصيفٌ أكثَرُ إيلامًا من الميتَم الذي يأوي أطفالًا مجهولي الأب والأم ومَكتومي القَيد أو هم نتيجَة إغتِصاب أو سُفاح.

هَولُ ما تتخبّطُ به الإنسانيَّةُ يشهَدُ أنَّ الإنسان من فصيلَة الذئب المتأنسِن لا من فصيلَة الإنسان المتأنسِن. يتطوَّر حاسوبُهُ وحسابُهُ يتدَهوَر.

منذُ أيَام اغتَصَبَني فيديو لنازيين جُدُدٍ في شرق أوكرانيا أسَروا جنودًا أوكرانيين مُوالين لروسيا. حوالي خمسَة عشَر جنديًّا يتمُّ إخراجُهم واحداً تلوَ الآخَر من حافِلَة صَغيرَة. جنودٌ عُتاةٌ عَريضو المناكِب يأكلون رأسَ الأفعَى يتمُّ إنزالُهم واحدًا تلو الآخَر من الحافلة. يقترب من كلّ واحدٍ منهم ما أن يترجَّلَ، جنديٌّ نازي. يُطلبُ من الأسير الوقوفُ بشكلٍ مستَقيم. عرِّف عن نفسِك فيعرّف. ما أن ينتهي الأسيرُ المكبَّلُ من لفظ اسمِه ورقمه العسكري وكتيبَتِه، حتّى تُطلَق عليه على الفور ثلاث رصاصات غير قاتلة. اوَّلُها في بطنِه. ثانيها في رجلِه. ثالثها في كتِفِه. بندقيَّة كلاشنيكوف تتولّى المهمّة بإتقان. يقعُ الجنديُّ أرضًا. يقترِبُ منه النازي الجديد ويضَعُ على وجهه رقعَة قماش. وهكذا دواليك. جنودٌ يقعونَ أرضًا لينتظروا موتهم البطيئ بتصفيَة دَمِهم. حوالي ثلاث ساعات من الحشرَجَة قبل أن يتمّ التأكد من وفاتِهم. يوضَعون في كيس جثث ويُرمَون في جورَة مخصَّصة لذلك.

ليسَ في عالَم الحيوان ما يوازي وحشيَّة الإنسان. من مينامار إلى أوشفيتز إلى غوانتنامو إلى بترِ أيادي الهنود الحمر وتعليقها على رقابِهِم وهم أحياء إلى تجميع جماجم الجزائريين للفرجَة في متاحف فرنسية، يبدو أنَّ الإنسان لم يتعلّم شيئًا يُذكَر من سماحَة الأنبياء والرسل. شرُّه أكثَر رسوخًا من رسوخِ الإنجيل والقرآن. منذ ألفَي سنة تقريبًا،‏ كان المسيحيون هدفًا لكراهيّة مجانيّة.‏ اذا لم تمطر السماء،‏ إذا ضرَبَت الزلازل،‏ أو حدثت مجاعةٌ أو انتشَر وباءٌ،‏ كان الناس يطالبون الأمبراطور الروماني بطرحِ المسيحيين للأسود الجائِعَة.‏ لم تنفع مع نيرون وأسلافِه أقوال السيد المسيح الذي قال في موعظة الجبل:‏ "سمعتم أنه قيلَ إحبِب قريبك وأبغُض عدوك.‏ وأما انا فأقول لكم أَحِبُّوا أعداءَكم.‏ باركوا لاعنيكم.‏ أَحسِنوا الى مُبغضيكم.‏ صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ".‏ لم ينفع معهم قول الرسول الأكرَم: " مَن حُرِمَ الرِّفقَ، حُرمَ الخيرَ كلَّه". في رواندا قَتلَ المسيحيون مئات آلاف الأبرياء على إسمِ المسيح. ماذا كان يسوع لِيَفعَلَ لو كان روانديّاً؟

كان يسوع مثالًا في التوازن الدَّقيق بين المحبة والبُغض. بينَ الخير العام والخير الخاص.‏ أبغضَ الرّياء،‏ ولكنه حاول مساعدة المرائين على تغيير قلوبِهِم وسلوكِهم.‏ دانَ العنف،‏ لكنه صلَّى لأجل الذين كانوا يعدمونه على خشبَة الصَّليب.‏ غَفَرَ لهم وهو يلفظ أنفاسَه الأخيرَة على الأرض وأنفاسَهُ الأولى في السَّماء. ومع أنَّ العالمَ تَحاملَ عليه وأبغضَه دونَما سبب،‏ بذلَ حياتَه لكي يهبَ الحياة للعالم.‏ وحدَها المحبّة تكنّسُ الإنتقام. وحدَها شَطّافَةُ دِماء المَظلومين.

لا يبدو لي أنَّ العالم يتّجه إلى انتِهاجِ المحبَّة. فصحُ القيامة أقوى سلاحٍ ضدَّ البَغضاء التي هي موتٌ حقيقي. كلُّ موتٍ آخَر وفاةٌ مؤقَّتة. وحده موتُ المحبَّة فيه صفة الديمومَة. وحده غير مشمولٍ بالقيامَة. القتلُ الوحيدُ المبارَك هوَ قتلُ الحقدِ في النَّفس. هو أهوَنُ أفعالِ القتل وأصعَبُهُ في آن لأنه يشترطُ قتلَ الذات حبًّا بالآخَر. نصفُ جريمَةٍ لا تنفَعُ معه. المطلوبُ والحالةُ هذه أن نتحوَّل دونَ إبطاء إلى مجرمين. وحدهم مجرمون من هذا الطّراز يفلتون من العِقاب.