بقلم ماريو ملكون
لم تكد تمرّ ساعات على إطلالة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في مؤتمره الصحفي الاخير من معراب والذي تناول فيه الملف الرئاسي، حتّى سارع موقع "ليبانون ديبايت"، إلى نشر مقالٍ تلطّى فيه كاتبه خلف ما سُمّي بالاوساط الشمالية، ليتحدّث فيه عن "هزيمة جعجع" وخِصال فرنجية المُنزَلة كما انتصاره المَيمون، مُسترسلاً بالتبجيل والمديح وتعداد نقاط الرّجل الذي لا يتكرّر.
خطأ أوّلي حكم بداية المقال، حيث اعتبر أنّ جعجع قد "غمز" من قناة فرنجية في كلامه عن "الفيتو ضد أيّ مرشّح من ٨ آذار"، وقد فات الكاتب والناشر في آن، بأنّ رئيس "القوات" لم يعتمد يوماً سياسة الغمز وهو الذي عُرِفَ بمواجهاته المباشرة ومحاكاته للوقائع من بابها لا نوافذها، كما أنّ جعجع قد كان واضحاً في كلّ مقارباته للاستحقاق الرئاسي، بأنّه لا فرق بين مرشّح وآخر من بوتقة أتباع المحور السوري الايراني، أيّ لا فرق بين عون أو باسيل أو فرنجية، وبالتّالي لم يكن بحاجة للغمز في مؤتمره تجاه أيّ شخص بعينه بل قصد بشكل مباشر كلّ مرشّح ينتمي لمحور حزب الله.
إعتبر الكاتب، بأنّ الهزيمة الاولى لجعجع قد تمثّلت بإعلانه عدم الترشّح للرئاسة، وهنا قد أخطأ مرّتين، في الاولى عندما تحدّث عن إعلان "عدم الترشّح" في الوقت أنّ ذلك لم يحصل، لا بل كان واضحاً في تثبيت طبيعيّة كونه مرشّحاً إضافة إلى ربطه ذلك بوحدة المعارضة؛ وأخطأ مرّة ثانية، عندما حصر مفهوم الهزيمة لدى رئيس "القوات" بالوصول إلى الرئاسة أو السعي لها أو خوض معركتها.
هنا، قد فات "الاوساط الشمالية" بأنّ مسيرة جعجع لطالما قامت على نكران الذات ليس عشقاً للنكران بل سعياً خلف سموّ الجماعة، وأنّ مشروع جعجع الوطني يقوم على الوصول إلى جمهورية فعلية لا مجرد بلوغ رئاسةً قد تأتي وتذهب في وطنٍ إن سقط لن يعود؛ هزيمة جعجع هي نِتاج حتمي لهزيمة الوطن وانتصاره يتحقّق في استقامة الاخير.
أمّا بعد، فإنّ ذروة اللامهنيّة تجسّدت بتضمين المقال - الذي حمل عنوان "إنها الهزيمة الاولى لجعجع… وهذه حظوظ فرنجية" - معادلة قيل أنّ المصادر طرحتها وهي حرفياً: "عندما تسأل أيّ قيادي مسيحي تمثّل في الانتخابات الاخيرة هل يتوجّس من سمير جعجع أم من سليمان فرنجية؟ أو حتى لو طرحنا هذا السؤال على الرأي العام فماذا سيكون الجواب، وكذلك لو قمنا باستبيان عن ذلك ماذا ستكون النتيجة؟ فالجواب البديهي سمير جعجع، لأنّه بإختصار فرنجية لا يُهدّد كيانات مسيحية كما يفعل جعجع وإلّا لكان الأخير رئيساً اليوم بـ٦٥ نائباً".
وعليه، نُسجّل هذه الملاحظات على الاستفسارات أعلاه وما تلاها من أسطرٍ في بحر المقال:
أولاً، من غير المنطقي أن يطرح الكاتب أو يرتضي الناشر أن تُطرح هكذا معادلة بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على الانتخابات النيابية والتي قال فيها المسيحيون والرأي العام كلمتهم وحدّدوا فيها خياراتهم، حيث حصد سمير جعجع ما يفوق ٣٠٪ من تأييد المسيحيين مقابل ٢٪ فقط لصالح فرنجية.
ثانياً، اقترحت الاوساط الشمالية العودة إلى استبيان، وهنا مع التحفّظ في اعتبار هذه الاوساط تمتّ للشمال بصلة، لا بُدّ من إحالتها إلى نتائج محافظة الشمال، بدءًا من زغرتا، عقر دار فرنجية، حيث تراجع الاخير بنسبة ١٥،٦٩٪ من ٥٤،٤٣٪ عام ٢٠١٨ إلى ٣٨،٧٤٪ عام ٢٠٢٢ مقابل تقدّم جعجع في مدينة زغرتا وقرى قضائها وفي بشري، تقدّمت "القوات" عن دورة العام ٢٠١٨ لتحصد تأييد ٧٠،١٦٪ مقابل تراجع كبير للمرشح المدعوم من "المرده" في الجبة، وفي الكوره والبترون أيضاً حصدت "القوات" التمثيل الاكبر والتقدم الابرز مقابل تقوقع كبير لمرشّحي فرنجية رغم ما نالوه من دعم أحزاب الممانعة، وكذلك في طرابلس والمنية والضنية، تفوّق مرشّح جعجع على ممثّل فرنجية بفارق كبير، وصولاً إلى عكار حيث تقدّمت "القوات" واضمحلّ كلّياً أيّ أثر لتيار بنشعي، إضافة إلى كلّ ذلك فقد نال رئيس "القوات" التأييد الاكبر والاوسع والعابر لكلّ الحدود المناطقية والطائفية على وسع الوطن، فيما تحدّد مستوى فرنجية الشعبي بمقعد يتيم في قلب منطقته وبشقّ الانفس.
ثالثاً، بيّنت خُلاصة التفنيد الذي أعلنته "الدولية للمعلومات" لنتائج انتخابات المقيمين أنّ "القوات" نالت تأييد ١١٨٣٥ صوتاً مسلماً مقابل ٥٤٨٩ صوتاً لتيار المرده، من بينهم ٩٤٠١ صوتاً سنياً للقوات مقابل ٤٦٨٩ للمرده، و١٣٧١ صوتاً شيعياً وعلوياً للقوات مقابل ٨٠٠ صوتاً شيعياً وعلوياً للمرده، و١٠٦٣ صوتاً درزياً للقوات مقابل لا شيء للمرده؛ وبالتالي فإنّ هذه الارقام كفيلة وحدها بنسف ما ادّعاه المقال بأنّ فرنجية وليس جعجع مَن يحظى بتأييد كافّة الطوائف.
رابعاً، الكلام عن أنّ فرنجية لا يُهدّد الكيانات المسيحية على عكس جعجع، هو نوع من الاعتداء الاخلاقي على ذاكرة المجتمع اللبناني وتحديداً المسيحي، والذي يُدرك أنّ أكبر مَن هدّد حضوره وديمومته هي المشاريع الشمولية والتوسّعية والاقليمية التي سعت ومازالت لمصادرة أرضه وأمنه وأمانه، وأنّ أكبر تهديد للمسيحيين هو ضرب الدولة وتقويض سطوتها ومصادرة قرارها وشرذمة مكوّناتها، حيث يقف فرنجية اليوم جانب السلاح الايراني اللاشرعي كما انتصب تماماً لخدمة الاحتلال السوري قبل العام ٢٠٠٥، بينما واجه ويواجه جعجع في السلم كما في الحرب كلّ محاولات الانقضاض على الدولة والمؤسسات الشرعية؛ أمّا أكثر، فإنّ مَن هدّد الكيانات المسيحية هو مَن شارك في شتم وهتك ومحاصرة البطريركية المارونية سياسياً والوقائع هنا حدّث ولا حرج.
خامساً، القول أنّه لا يستطيع أحد تصوير فرنجية على أنّه مرشّح ٨ آذار لانتهاجه خط المقاومة والتزامه اتفاق الطائف، لهو مزيج من استغباء القارىء والالتفاف على وعي مجتمع برمّته، فـ"المقاومة" التي لا يفقه فرنجية رفض شتّى طلب لسيّدها هي فرقة مسلّحة تأتمر بالحرس الثوري الايراني وتلتزم معاركه وما تصاريح قادته عن استعداد حزب الله للرد عسكرياً على اسرائيل في حال الاعتداء على طهران هو دليل من ألف، أمّا عن "اتفاق الطائف" فبند حصرية السلاح بيد الدولة الذي لا يجرؤ على المطالبة بتنفيذه، يُثبّت أنّ مواقف رئيس "المرده" استنسابية وانتقائية وشكلية لا أكثر ولا أقل، هذا دون الغوص بالتهليل الذي غلّف أسوار بنشعي عندما أطلق حليفه نصرالله سلسلة الهجومات الكلامية ضد الدول العربية كرمى عيون أسياده في طهران، فهل يستقيم الطائف بالنسبة لفرنجية على ضرب علاقات لبنان مع الدولة العربية كلّما أراد "الحزب" ذلك؟ ربّما وزير بنشعي جورج قرداحي أكبر مثال.
سادساً، يبدو أنّ الكاتب الذي تحدّث عن محاولة احتكار الساحة المسيحية لا يفقه مبدأ الديمقراطية واحترام إرادة اللبنانيين، ويحنّ إلى زمن فرض رستم غزالي وغازي كنعان لممثلي المسيحيين.
سابعاً، نستعيد موقفين للوزير السابق سليمان فرنجية ونترك للقارىء الاستخلاص منهما نسبة "التوافقية" و"البراغماتية" التي يُمثّلها؛ في ١٨ حزيران ٢٠١٤، قال أنّه "لن يكون هناك رئيساً لا يرضى عنه الرئيس بشار الاسد"، وفي 27 نيسان 2015، غرّد "أنا مع السيد نصرالله حتى النهاية في موقفه من الحرب السعودية على اليمن أياً يكن ارتفاع سقف موقفه السياسي".
خِتاماً، ليست الهزيمة التي حاول كاتب المقال إلباسها لجعجع سوى شهادة حيّة على الفروقات الشاسعة التي تفصل ما بين فكرين يستحكمان بالبلاد منذ عقود، يقوم الاول على اعتبار حرّية الجسد وجمع الغنيمة وزيادة النفوذ في السلطة ولو بتكبيل الارادة والذات هو "انتصار" بكلّ ما للكلمة من معنى، وفي توصيف التمسّك بالارادة الحرّة مهما كان ثمن مبادلتها ولو كلّفت اعتقالاً للجسد وتخلّياً عن المادّيات هو "هزيمة"، وهكذا أيضاً لبنان يُصارعه نهجين، الاول يحمل مشروع سلطة ما يشبع رُكّابه من الانقضاض على أرزاق الناس وأنفاسها والثاني يسعى لبناء دولة ما نَعِس حرّاسه ولا تراجعوا عن تقديم الدماء والارواح لأجل قيامته.
خِتاماً، ليست الهزيمة التي حاول كاتب المقال إلباسها لجعجع سوى شهادة حيّة على الفروقات الشاسعة التي تفصل ما بين فكرين يستحكمان بالبلاد منذ عقود، يقوم الاول على اعتبار حرّية الجسد وجمع الغنيمة وزيادة النفوذ في السلطة ولو بتكبيل الارادة والذات هو "انتصار" بكلّ ما للكلمة من معنى، وفي توصيف التمسّك بالارادة الحرّة مهما كان ثمن مبادلتها ولو كلّفت اعتقالاً للجسد وتخلّياً عن المادّيات هو "هزيمة"، وهكذا أيضاً لبنان يُصارعه نهجين، الاول يحمل مشروع سلطة ما يشبع رُكّابه من الانقضاض على أرزاق الناس وأنفاسها والثاني يسعى لبناء دولة ما نَعِس حرّاسه ولا تراجعوا عن تقديم الدماء والارواح لأجل قيامته.
تــابــــع كــل الأخــبـــــار.
إشترك بقناتنا على واتساب


Follow: Lebanon Debate News